الحلقة الخامسة من يوميات 19 شهرًا من الحبس الاحتياط التي يوثق فيها الصحفي خالد داود، الرئيس السابق لحزب الدستور شهور اعتقاله .. " أنت في الإيراد" .. الحلقة الخامسة (5)
أصعب فترة على الإطلاق في شهور الحبس التسعة عشر هي ما يسمى بـ"الإيراد"، وهي الصفة التي يتمتع بها المحبوس عندما "يرد" إلى محبسه.
يبدأ الإيراد لحظة دخول السجن، وفقًا للائحة السجون، ويمتد طوال 11 يومًا لا يحق خلالها للسجين التريض، ولا تلقي زيارات أو أطعمة أو ملابس من الخارج. وبما أني، كما غالبية السجناء، دخلت الزنزانة دون أية متعلقات شخصية، كان كل ما لديَّ هو السترة البيضاء المتسخة التي تسلمتها من إدارة السجن، وغيار داخلي وشراب.
عملية مرور 24 ساعة 11 مرة في زنزانة ضيقة ليس بها مكان للحركة دون ملابس ولا أدوات نظافة أساسية ولا طعام من الخارج ولا كوبونات شراء أطعمة من كافيتريا السجن لها هدف. "الإيراد" ببساطة هو "حفلة الاستقبال" أو "حفلة التكدير" التي تؤكد انتقالك من حياتك اليومية الطبيعية إلى حياة السجن بكل ما فيها مصاعب.
طول فترة الإيراد لا تحددها اللوائح فقط، ولكن الأهم قرار ضابط الأمن الوطني المقيم في سجن ليمان طرة والذي بيده كل ما يتعلق بالسجناء السياسيين. يقول المسؤولون في الخارج بثقة كاملة "لا يوجد في مصر سجناء سياسين؛ بل متهمين في قضايا جنائية". ولكن خلف أسوار السجن نحن "سجناء سياسيين" نقيم في "عنابر السياسي" بأرقامها المختلفة، ويتم تقسيمنا بين عنابر الإخوان والجماعات الإسلامية الأخرى من داعش والقاعدة والجماعة الإسلامية والجهاد، وعنابر لسجناء التيار المدني. وإن كان يحدث في بعض الأحيان إيداع سياسيين من التيار المدني مع آخرين من سجناء الإخوان لأن سجناء التيار المدني أقل بكثير من جماعات الإسلام السياسي.
صاحب القرار أراد أن تمتد "فترة الإيراد" الخاصة بي 15 يومًا، لم أخرج خلالهم من الزنزانة سوى مرة واحدة في اليوم التالي لدخولي السجن، التقطوا لي الصورة الشهيرة التي يمسك فيها السجين بلوحة خشبية صغيرة مكتوب عليها رقم طويل بالطباشير، وأخذوا بصماتي بالطريقة القديمة؛ غمسوا أصابعي كلها في الحبر الزفر ثم بصمت على الأوراق.
وبالطبع بعد نحو ثلاثة أيام من البهدلة، لم يكن من الممكن أن تكون صورتي في أوراق السجن جيدة. ربما كنت أشبه مجرمًا عتيًا، ومن العبث تخيل أن أي سجين سيبدو مبتسمًا في هذه الصورة. حاولت فعلًا أن ابتسم لكي أزعم أني أقوى من الظروف وأني ابن مصر وضد الكسر، ولكن فشلت.
ولأن كل شيء في هذه التجربة كان جديدًا، كانت الأيام الأولى مخصصة لاستكشاف المكان ومعرفة كيف ستسير الأمور، وكيف سيمضي اليوم، ومن هم السجناء في الـ 16 زنزانة التي تشكل معًا "عنبر 1 سياسي".
كل زنزانة هي أشبه بغرفة صغيرة وربما لكي يخفف السجناء من واقعهم قليلا يسمونها "أوضة". رفضت ذلك تمامًا وأصريت على استخدام كلمة "زنزانة" لأنها كذلك بالفعل. زنزانة بشباك صغير بقضبان وحوائط متسخة صفراء وعناكب تنسج خيوطها في كل ركن. سيسقط على رأسك العنكبوت. لا تنزعج. تناوله بيدك وأزحه بعيدًا. لم أكن أحب قتل العناكب.
كانت هناك ثماني زنازين في كل صف، يفصل بينهم ممر صغير يسمى "الأنبوبة" به عدة ثلاجات و"ديب فريزر" يحفظ فيه السجناء أطعمتهم التي تأتي في الزيارات أو ما يقومون بشرائه من لحوم ومواد مجمدة من كافيتريا السجن. وجود نحو ثلاجتين وثلاثة ديب فريزر في الأنبوبة كان يعكس أن غالبية نزلاء العنبر ميسوري الحال نسبيًا.
في فترة ما كان العنبر يضم سجناء سياسيين فقط، ولكن بدأت إدارة السجن تسكين المدانين من الضباط والقضاة ووكلاء النيابة في قضايا جنائية مختلفة في نفس العنبر حتى أصبحوا هم الأغلبية.
حرص جميع نزلاء العنبر على البقاء فيه وعدم الانتقال منه لأنه من "العنابر المميزة" أو "عنبر خمس نجوم" كما كان يذكرني دائما ضابط الأمن الوطني. في عنبرنا كل الزنازين لا تسع سوى ثلاثة أفراد فقط، وبها أسرة (حتى لو كانت سقف الحمام)، وبها حمام افرنجي.
أما العنابر والزنازين الأخرى فكانت أكبر وربما يقيم بها بين 15 وعشرين شخصًا، وقد ينام بعض السجناء على الأرض، ومن المعتاد أن يكون الحمام "بلدي"، أي تلك الحفرة في الأرض. ولعل أهم ميزة لدينا على الإطلاق كانت الدش الذي تتدفق منه مياه ساخنة. المياه الساخنة في السجن رفاهية كبيرة لأن البديل هو استخدام وسائل بدائية لتسخين المياه، مثل وصل سلكين بالكهرباء وتغطيتهما بورق فضي وتغطيسهما في المياه، وهو ما قد يؤدي إلى صعق نزلاء بالتيار الكهربائي أحيانًا.
عندما وصلت السجن ليلة 25 سبتمبر/ أيلول 2019، لم يكن هناك سوى ثلاثة زنازين في العنبر تضم سجناء سياسيين فعلًا. الزنزانة المقابلة لي تمامًا، كانت تضم ثلاثة متهمين من "قضية الأمل" لم أكن أعرف أيًا منهم، ولكن عرفت أن من بينهم "أدمن" صفحة "احنا آسفين يا ريس" التي تم إنشاؤها لدعم الرئيس المخلوع الراحل حسني مبارك ونجله جمال في أعقاب ثورة 25 يناير 2011.
وكان وجود أدمن "آسفين يا ريس" ضمن "قضية الأمل" التي ضمت أصدقاء مقربين مثل حسام مؤنس وهشام فؤاد وزياد العليمي هو دليل آخر على مدى لا معقولية تلك القضية التي اتسعت لمتهمين من مختلف الأطياف من قيادات إخوانية وتيار مدني ورامي شعث المسؤول عن فرع حركة مقاطعة وسحب الاستثمارات من إسرائيل (BDS) في مصر.
كما تواجد في العنبر أستاذي والمناضل اليساري الشهير كمال خليل الذي عرفته منذ كنت طالبًا جامعيًا في منتصف الثمانينات من القرن الماضي، وكان يبهرني دائما بهتافاته البسيطة المباشرة وابتسامته التي لا تفارق وجهه. وأخيرا كانت زنزانة الزميل الصحفي ابراهيم الدراوي الذي كان على وشك مغادرة السجن بعد أن قضت محكمة النقض بإلغاء حكم السجن المؤبد الصادر بحقه وبرّأته بعد ست سنوات من الحبس.
السجناء الأقدم في العنبر كانوا يعرفون ما سنمر به من ظروف، وقواعد فترة الإيراد. في صباح اليوم التالي لدخول العنبر، كان أول من تحدثت معه همسًا لمحاولة معرفة الوضع هو صديقي طوال فترة الحبس، ولاحقًا رفيق الزنزانة لنحو شهرين؛ علاء عصام. عرفت منه أنه أثناء الإيراد ليس مسموحًا لأي من السجناء الآخرين التعامل أو الحديث معنا، أو منحنا أي شيء يساعدنا على التأقلم مع الظروف الجديدة، لا طعام ولا سجائر ولا حتى أدوات طعام ورقية أو بلاستيكية.
في الصباح الأول، سلمني أحد السجناء من أصحاب الزي الأخضر (مجندين متهربين) كيسًا بلاستيكيًا (كيس تلاجة) به فول وبعض أرغفة الخبز، أول وجبة نتناولها في السجن. لم نعرف كيف نتصرف أنا وحسن نافعة وحازم حسني بكيس فيه فول. ولكن السجن يعلمك التصرف والتأقلم مع كل الظروف. اقطع لقيمات من الرغيف، افتح الكيس وتناول الفول مباشرة، بس كده. الأمر نفسه حدث مع كيس الرز الأبيض المسلوق وشوربة العدس الشهيرة. انتظر قليلا حتى يبرد العدس، ارفع كيس التلاجة عاليا مع الإمساك بطرفه فقط لكي تتحكم في الكمية التي ستنزل في فمك، واستمتع بالهناء والشفاء. لك قطعة لحم واحدة مرتين في الأسبوع. بايدك طبعا وشد جامد لأن اللحمة مش مستوية أوي.
زميلي الصحفي الدراوي الذي كان على وشك الخروج من السجن خلال أيام كان المنقذ الأعظم في أيام "الإيراد" الأولى. لم أكن أعرفه شخصيًا، كما لم أكن أعرف أيًا من السجناء السياسيين، في ما عدا الأستاذ كمال خليل، وبالطبع لم أعرف أيًا من السجناء الجنائيين، في ما عدا اسم محافظ المنوفية السابق المدان بالرشوة وغسيل الأموال، والذي قرأت تفاصيل قضيته في الصحف. منحني الدراوي من الفتحة الصغيرة في باب الزنزانة الحديدي، والمعروفة "بالنضارة"، شبشب زنوبة بعد أن عرف بمصادرة حذائي عند الدخول، وصابونة لغسيل الوجه، وكانت هدية غالية جدًا لأنني سأتمكن أخيرًا من الاستحمام.
ولكن كيف تجفف جسمك بعد الاستحمام الأول في السجن؟ بسيطة. أولا قم بغسيل السترة التي سلمتها لك إدارة السجن جيدا، انتظر قليلا حتى تجف -وهي تجف بسرعة جدا لسبب لم أفهمه- ولا بأس أن تقضي تلك الفترة بملابسك الداخلية، بعدها يمكنك أن تستحم وتستخدم السترة لتجفيف جسدك. عندما تجف السترة وترتديها، ستتمكن من غسيل ملابسك الداخلية. لا تهتم بغياب المشط وعدم تسريح الشعر. لن ترى أحدًا ولن يراك أحد.
أغلب الرجال المصريين لا يعرفون كيف تُغسل الملابس بسبب تدليل الأمهات والزوجات، لكن لا بأس: اغمر ما تريد غسله بالمياه مع دعك المناطق المختلفة بيدك كما شاهدت في الأفلام السينمائية. لكن لا تفرط كثيرا في الدعك لأنه مع الوقت ستفاجأ بجروح مختلفة في أصابعك، خاصة بعد انتهاء الإيراد وبدء استخدام مسحوق الغسيل ومواد التطهير. وعندما تطول فترة إقامتك في السجن، ستكتشف أن هناك نزلاء جنائيين يقومون بـ"مشاريع صغيرة" منها شراء غسالة للملابس على نفقتهم وغسيل ملابس النزلاء الآخرين بمقابل بسيط نسبيًا.
تتالت الهدايا من نضارة الزنزانة وكانت كلها ثمينة جدًا: ملعقة بلاستيك، أكواب من الورق، وأخيرًا طبق بلاستيك واحد قديم متهالك. إذا كنت تقيم مع آخرين في الزنزانة، ستضطر لانتظار زميلك لكي يأكل في الطبق الوحيد باستخدام الملعقة الوحيدة، قبل أن تغسلهما وتستخدمهما مجددًا. وكان هناك أيضا سجائر طائرة تنهمر من "النضارة" لا نعرف من ألقاها، سجائر من كل الأنواع وأكثرها كليوباترا. كنت المدخن الوحيد في الزنزانة، وكانت سعادتي بالغة.
كان حلمي هو الحصول على كوب شاي أو قهوة ساخنة في الصباح. ولكن السماح لك بإدخال سخان كهربائي لتسخين المياه (كاتيل) في الزنزانة لن يحدث سوى بعد انتهاء الإيراد. كانت التعليمات الصادرة للنزلاء عدم التعامل معنا مطلقا، وكلما شكوت لـ"المسير" هذه الإجراءات المتشددة وطلبت منه التحدث مع الضابط المسؤول، يكون الرد "أنت في الإيراد. ملكش أي حاجة غير التعيين"، وهو طعام السجن.
ورغم أن غالبية النزلاء كانوا محترمين للغاية في التعامل معنا ويحاولون المساعدة، فهناك دائما الخشية من سجين أو اثنين ينقلون كل ما يحدث داخل العنبر للضباط، مما قد يسبب المشاكل لمن يرغب في المساعدة. وبالتالي يتطلب الحصول على كوب شاي ساخن أو كوب صغير من القهوة ترتيبات وتخطيطًا قد يستغرق ساعة أو ساعتين. انتظر على فتحة النضارة في باب الزنزانة، ثم ابدأ في انتظار أي نزيل يمر أمام زنزانتك في فترة التريض، وابدأ في "البسبسة" او النداء عليه بصوت منخفض، "بس. بس. لو سمحت، لو سمحت" سيتجاهلك واحد او اثنين او ثلاثة. صبرًا. سيأتي الرابع ويقف دون أن يوجه رأسه نحوك ليسمع ما تطلب. "ممكن كباية شاي سخنة لو سمحت" سينظر زميلك حوله لكي يتأكد أن لا أحد يراقبه، ولو كان لطيفا سيرد "حاضر، ححاول".
في "الإيراد"، ولأنه لا يوجد أمامك بديل، ستأكل كل ما يصلك من "تعيين السجن" وهو ما يتم توزيعه مجانا على السجناء، مثل "الجراية" وهو خبز من فرن السجن، والفول، وعلب الجبنة البيضاء، والخضروات كالطماطم والخيار والجزر والبصل، ووجبات الغداء من رز مسلوق وشوربة عدس أو خضار مطبوخ احيانا كالبطاطس والفاصوليا البيضاء، بجانب قطعتي اللحم أسبوعيًا.
ولكن في اليوم الأخير قبل خروج الدراوي منحنا هدية عظيمة أخرى: صينية فراخ بالبطاطس تلقاها في آخر زيارة من أسرته، أقمنا لها في زنزانتنا احتفالا يليق بمقامها الرفيع، وكان ذلك في اليوم الخامس لسجننا. كانت سعادتي بالغة يومها وأنا أرفض "التعيين الميري" في أكياس التلاجة التي أقسمت ألا أعود لاستخدامها طوال حياتي بعد الخروج من السجن. محدش يقولي "زي ما انت"، ومحدش يديني حاجة في كيس تلاجة. كابوس.