السبت، 19 سبتمبر 2020

إرادة الحياة"


إرادة الحياة" 


إذا الشّعبُ يَوْمَاً أرَادَ الْحَيَـاةَ/ فــلا بــدّ أن يســتجيب القــدرْ

ولا بُـدَّ لِلَّيـْلِ أنْ يَنْجَلِــي/  وَلا بُدَّ للقَيْدِ أَنْ يَـنْكَسِـر

وَمَنْ لَمْ يُعَانِقْهُ شَوْقُ الْحَيَـاةِ/  تَبَخَّـرَ فى جَوِّهَـا وَانْدَثَـر

فَوَيْلٌ لِمَنْ لَمْ تَشُقْـهُ الْحَيَاةُ/ مِنْ صَفْعَـةِ العَـدَم المُنْتَصِر

كَذلِكَ قَالَـتْ لِـى الكَائِنَاتُ / وَحَدّثَنـى رُوحُـهَا المُسْتَتِر

وَدَمدَمَتِ الرِّيحُ بَيْنَ الفِجَاجِ/ وَفَوْقَ الجِبَال وَتَحْتَ الشَّجَر

إذَا مَا طَمَحْـتُ إلِـى غَـايَةٍ/ رَكِبْتُ الْمُنَى وَنَسِيتُ الحَذَر

وَلَمْ أَتَجَنَّبْ وُعُـورَ الشِّعَـابِ/ وَلا كُبَّـةَ اللَّهَـبِ المُسْتَعِـر

وَمَنْ لايحب صُعُودَ الجِبَـالِ/ يَعِشْ أَبَدَ الدَّهْرِ بَيْنَ الحُفَـر

فَعَجَّتْ بِقَلْبِى دِمَاءُ الشَّبَـابِ/ وَضَجَّتْ بِصَدْرِى رِيَاحٌ أُخَر

وَأَطْرَقْتُ، أُصْغِى لِقَصْفِ الرُّعُودِ/ وَعَزْفِ الرِّيَاح وَوَقْعِ المَطَـر

وَقَالَتْ لِى الأَرْضُ - لَمَّا سَأَلْتُ :/ أَيَـا أُمُّ هَلْ تَكْرَهِينَ البَشَر؟"

"أُبَارِكُ فى النَّاسِ أَهْلَ الطُّمُوحِ/ وَمَنْ يَسْتَلِـذُّ رُكُوبَ الخَطَـر

وأَلْعَنُ مَنْ لا يُمَاشِى الزَّمَـانَ/ وَيَقْنَعُ بِالعَيْـشِ عَيْشِ الحَجَر

هُوَ الكَوْنُ حَى،  يُحِـبُّ الحَيَاةَ/ وَيَحْتَقِرُ الْمَيْتَ مَهْمَا كَـبُر

فَلا الأُفْقُ يَحْضُنُ مَيْتَ الطُّيُورِ/ وَلا النَّحْلُ يَلْثِمُ مَيْتَ الزَّهَــر

وَلَـوْلا أُمُومَةُ قَلْبِى الرَّؤُوم / لَمَا ضَمَّتِ المَيْتَ تِلْكَ الحُفَـر

فَوَيْلٌ لِمَنْ لَمْ تَشُقْـهُ الحَيَـاةُ/ مِنْ لَعْنَةِ العَـدَمِ المُنْتَصِـر!"

وفى لَيْلَةٍ مِنْ لَيَالِى الخَرِيفِ/ مُثَقَّلَـةٍ بِالأََسَـى وَالضَّجَـر

سَكِرْتُ بِهَا مِنْ ضِياءِ النُّجُومِ/ وَغَنَّيْتُ لِلْحُزْنِ حَتَّى سَكِـر

سَأَلْتُ الدُّجَى: هَلْ تُعِيدُ الْحَيَاةُ،/ لِمَا أَذْبَلَتْـهُ رَبِيعَ العُمُـر؟

فَلَمْ تَتَكَلَّمْ شِفَـاهُ الظَّلامِ / وَلَمْ تَتَرَنَّـمْ عَذَارَى السَّحَر

وَقَالَ لِى الْغَـابُ فى رِقَّـةٍ/ مُحَبَّبـَةٍ مِثْلَ خَفْـقِ الْوَتَـر

يَجِيءُ الشِّتَاءُ، شِتَاءُ الضَّبَابِ/ شِتَاءُ الثُّلُوجِ، شِتَاءُ الْمَطَـر

فَيَنْطَفِئ السِّحْرُ، سِحْرُ الغُصُونِ/ وَسِحْرُ الزُّهُورِ وَسِحْرُ الثَّمَ

وَسِحْرُ الْمَسَاءِ الشَّجِى الوَدِيعِ/ وَسِحْرُ الْمُرُوجِ الشَّهِى العَطِر

وَتَهْوِى الْغُصُونُ وَأَوْرَاقُـهَا / وَأَزْهَـارُ عَهْدٍ حَبِيبٍ نَضِـر

وَتَلْهُو بِهَا الرِّيحُ فى كُلِّ وَادٍ/ وَيَدْفنُـهَا السَّيْـلُ أنَّى عَـبَر

وَيَفْنَى الجَمِيعُ كَحُلْمٍ بَدِيـعٍ/ تَأَلَّـقَ فى مُهْجَـةٍ وَانْدَثَـر

وَتَبْقَى البُـذُورُ التى حُمِّلَـتْ / ذَخِيـرَةَ عُمْرٍ جَمِـيلٍ غَـبَر

وَذِكْرَى فُصُول، وَرُؤْيَا حَيَاةٍ/ وَأَشْبَاح دُنْيَا تَلاشَتْ زُمَـر

مُعَانِقَـةً وَهْى تَحْـتَ الضَّبَابِ/ وَتَحْتَ الثُّلُوجِ وَتَحْـتَ الْمَدَر

لَطِيفَ الحَيَـاةِ الذى لا يُمَـلُّ/ وَقَلْبَ الرَّبِيعِ الشَّذِى الخَضِر

وَحَالِمَـةً بِأَغَـانِـى الطُّيُـورِ/ وَعِطْرِ الزُّهُورِ وَطَعْمِ الثَّمَـر

وَمَا هُـوَ إِلاَّ كَخَفْـقِ الجَنَاحِ/ حَتَّـى نَمَا شَوْقُـهَا وَانْتَصَـر

فصدّعت الأرض من فوقـها/ وأبصرت الكون عذب الصور

وجـاءَ الربيـعُ بأنغامـه/ وأحلامـهِ وصِبـاهُ العطِـر

وقبلّـها قبـلاً فى الشفـاه/ تعيد الشباب الذى قد غبـر

وقالَ لَهَا: قد مُنحـتِ الحياةَ/ وخُلّدتِ فى نسلكِ الْمُدّخـر

وباركـكِ النـورُ فاستقبـلي/ شبابَ الحياةِ وخصبَ العُمر

ومن تعبـدُ النـورَ أحلامـهُ/ يباركهُ النـورُ أنّـى ظَهر

إليك الفضاء، إليك الضيـاء/ إليك الثرى الحالِمِ الْمُزْدَهِر

إليك الجمال الذى لا يبيـد/ إليك الوجود الرحيب النضر

فميدى كما شئتِ فوق الحقول/ بِحلو الثمار وغـض الزهـر

وناجى النسيم وناجى الغيـوم/ وناجى النجوم وناجى القمـر

وناجـى الحيـاة وأشواقـها/ وفتنـة هذا الوجـود الأغـر

وشف الدجى عن جمال عميقٍ/ يشب الخيـال ويذكى الفكر

ومُدَّ عَلَى الْكَوْنِ سِحْرٌ غَرِيبٌ/ يُصَـرِّفُهُ سَـاحِـرٌ مُقْـتَدِر

وَضَاءَتْ شُمُوعُ النُّجُومِ الوِضَاء/ وَضَاعَ البَخُورُ، بَخُورُ الزَّهَر

وَرَفْرَفَ رُوحٌ غَرِيبُ الجَمَالِ/ بِأَجْنِحَـةٍ مِنْ ضِيَاءِ الْقَمَـر

وَرَنَّ نَشِيدُ الْحَيَاةِ الْمُقَـدَّسِ/ فى هَيْكَـلٍ حَالِمٍ قَدْ سُـحِر

وَأَعْلَنَ فى الْكَوْنِ أَنَّ الطُّمُوحَ/ لَهِيبُ الْحَيَـاةِ وَرُوحُ الظَّفَـر

إِذَا طَمَحَتْ لِلْحَيَاةِ النُّفُوسُ/ فَلا بُدَّ أَنْ يَسْتَجِيبَ الْقَـدَرْ


الشاعر التونسي أبي القاسم الشابي / فى سبتمبر 1933

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.