إرادة الحياة"
إذا الشّعبُ يَوْمَاً أرَادَ الْحَيَـاةَ/ فــلا بــدّ أن يســتجيب القــدرْ
ولا بُـدَّ لِلَّيـْلِ أنْ يَنْجَلِــي/ وَلا بُدَّ للقَيْدِ أَنْ يَـنْكَسِـر
وَمَنْ لَمْ يُعَانِقْهُ شَوْقُ الْحَيَـاةِ/ تَبَخَّـرَ فى جَوِّهَـا وَانْدَثَـر
فَوَيْلٌ لِمَنْ لَمْ تَشُقْـهُ الْحَيَاةُ/ مِنْ صَفْعَـةِ العَـدَم المُنْتَصِر
كَذلِكَ قَالَـتْ لِـى الكَائِنَاتُ / وَحَدّثَنـى رُوحُـهَا المُسْتَتِر
وَدَمدَمَتِ الرِّيحُ بَيْنَ الفِجَاجِ/ وَفَوْقَ الجِبَال وَتَحْتَ الشَّجَر
إذَا مَا طَمَحْـتُ إلِـى غَـايَةٍ/ رَكِبْتُ الْمُنَى وَنَسِيتُ الحَذَر
وَلَمْ أَتَجَنَّبْ وُعُـورَ الشِّعَـابِ/ وَلا كُبَّـةَ اللَّهَـبِ المُسْتَعِـر
وَمَنْ لايحب صُعُودَ الجِبَـالِ/ يَعِشْ أَبَدَ الدَّهْرِ بَيْنَ الحُفَـر
فَعَجَّتْ بِقَلْبِى دِمَاءُ الشَّبَـابِ/ وَضَجَّتْ بِصَدْرِى رِيَاحٌ أُخَر
وَأَطْرَقْتُ، أُصْغِى لِقَصْفِ الرُّعُودِ/ وَعَزْفِ الرِّيَاح وَوَقْعِ المَطَـر
وَقَالَتْ لِى الأَرْضُ - لَمَّا سَأَلْتُ :/ أَيَـا أُمُّ هَلْ تَكْرَهِينَ البَشَر؟"
"أُبَارِكُ فى النَّاسِ أَهْلَ الطُّمُوحِ/ وَمَنْ يَسْتَلِـذُّ رُكُوبَ الخَطَـر
وأَلْعَنُ مَنْ لا يُمَاشِى الزَّمَـانَ/ وَيَقْنَعُ بِالعَيْـشِ عَيْشِ الحَجَر
هُوَ الكَوْنُ حَى، يُحِـبُّ الحَيَاةَ/ وَيَحْتَقِرُ الْمَيْتَ مَهْمَا كَـبُر
فَلا الأُفْقُ يَحْضُنُ مَيْتَ الطُّيُورِ/ وَلا النَّحْلُ يَلْثِمُ مَيْتَ الزَّهَــر
وَلَـوْلا أُمُومَةُ قَلْبِى الرَّؤُوم / لَمَا ضَمَّتِ المَيْتَ تِلْكَ الحُفَـر
فَوَيْلٌ لِمَنْ لَمْ تَشُقْـهُ الحَيَـاةُ/ مِنْ لَعْنَةِ العَـدَمِ المُنْتَصِـر!"
وفى لَيْلَةٍ مِنْ لَيَالِى الخَرِيفِ/ مُثَقَّلَـةٍ بِالأََسَـى وَالضَّجَـر
سَكِرْتُ بِهَا مِنْ ضِياءِ النُّجُومِ/ وَغَنَّيْتُ لِلْحُزْنِ حَتَّى سَكِـر
سَأَلْتُ الدُّجَى: هَلْ تُعِيدُ الْحَيَاةُ،/ لِمَا أَذْبَلَتْـهُ رَبِيعَ العُمُـر؟
فَلَمْ تَتَكَلَّمْ شِفَـاهُ الظَّلامِ / وَلَمْ تَتَرَنَّـمْ عَذَارَى السَّحَر
وَقَالَ لِى الْغَـابُ فى رِقَّـةٍ/ مُحَبَّبـَةٍ مِثْلَ خَفْـقِ الْوَتَـر
يَجِيءُ الشِّتَاءُ، شِتَاءُ الضَّبَابِ/ شِتَاءُ الثُّلُوجِ، شِتَاءُ الْمَطَـر
فَيَنْطَفِئ السِّحْرُ، سِحْرُ الغُصُونِ/ وَسِحْرُ الزُّهُورِ وَسِحْرُ الثَّمَ
وَسِحْرُ الْمَسَاءِ الشَّجِى الوَدِيعِ/ وَسِحْرُ الْمُرُوجِ الشَّهِى العَطِر
وَتَهْوِى الْغُصُونُ وَأَوْرَاقُـهَا / وَأَزْهَـارُ عَهْدٍ حَبِيبٍ نَضِـر
وَتَلْهُو بِهَا الرِّيحُ فى كُلِّ وَادٍ/ وَيَدْفنُـهَا السَّيْـلُ أنَّى عَـبَر
وَيَفْنَى الجَمِيعُ كَحُلْمٍ بَدِيـعٍ/ تَأَلَّـقَ فى مُهْجَـةٍ وَانْدَثَـر
وَتَبْقَى البُـذُورُ التى حُمِّلَـتْ / ذَخِيـرَةَ عُمْرٍ جَمِـيلٍ غَـبَر
وَذِكْرَى فُصُول، وَرُؤْيَا حَيَاةٍ/ وَأَشْبَاح دُنْيَا تَلاشَتْ زُمَـر
مُعَانِقَـةً وَهْى تَحْـتَ الضَّبَابِ/ وَتَحْتَ الثُّلُوجِ وَتَحْـتَ الْمَدَر
لَطِيفَ الحَيَـاةِ الذى لا يُمَـلُّ/ وَقَلْبَ الرَّبِيعِ الشَّذِى الخَضِر
وَحَالِمَـةً بِأَغَـانِـى الطُّيُـورِ/ وَعِطْرِ الزُّهُورِ وَطَعْمِ الثَّمَـر
وَمَا هُـوَ إِلاَّ كَخَفْـقِ الجَنَاحِ/ حَتَّـى نَمَا شَوْقُـهَا وَانْتَصَـر
فصدّعت الأرض من فوقـها/ وأبصرت الكون عذب الصور
وجـاءَ الربيـعُ بأنغامـه/ وأحلامـهِ وصِبـاهُ العطِـر
وقبلّـها قبـلاً فى الشفـاه/ تعيد الشباب الذى قد غبـر
وقالَ لَهَا: قد مُنحـتِ الحياةَ/ وخُلّدتِ فى نسلكِ الْمُدّخـر
وباركـكِ النـورُ فاستقبـلي/ شبابَ الحياةِ وخصبَ العُمر
ومن تعبـدُ النـورَ أحلامـهُ/ يباركهُ النـورُ أنّـى ظَهر
إليك الفضاء، إليك الضيـاء/ إليك الثرى الحالِمِ الْمُزْدَهِر
إليك الجمال الذى لا يبيـد/ إليك الوجود الرحيب النضر
فميدى كما شئتِ فوق الحقول/ بِحلو الثمار وغـض الزهـر
وناجى النسيم وناجى الغيـوم/ وناجى النجوم وناجى القمـر
وناجـى الحيـاة وأشواقـها/ وفتنـة هذا الوجـود الأغـر
وشف الدجى عن جمال عميقٍ/ يشب الخيـال ويذكى الفكر
ومُدَّ عَلَى الْكَوْنِ سِحْرٌ غَرِيبٌ/ يُصَـرِّفُهُ سَـاحِـرٌ مُقْـتَدِر
وَضَاءَتْ شُمُوعُ النُّجُومِ الوِضَاء/ وَضَاعَ البَخُورُ، بَخُورُ الزَّهَر
وَرَفْرَفَ رُوحٌ غَرِيبُ الجَمَالِ/ بِأَجْنِحَـةٍ مِنْ ضِيَاءِ الْقَمَـر
وَرَنَّ نَشِيدُ الْحَيَاةِ الْمُقَـدَّسِ/ فى هَيْكَـلٍ حَالِمٍ قَدْ سُـحِر
وَأَعْلَنَ فى الْكَوْنِ أَنَّ الطُّمُوحَ/ لَهِيبُ الْحَيَـاةِ وَرُوحُ الظَّفَـر
إِذَا طَمَحَتْ لِلْحَيَاةِ النُّفُوسُ/ فَلا بُدَّ أَنْ يَسْتَجِيبَ الْقَـدَرْ
الشاعر التونسي أبي القاسم الشابي / فى سبتمبر 1933
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.