الخميس، 1 أكتوبر 2020

هكذا أجبرت الدولة الفلاحين على زراعة «الطوب والإسمنت»

https://www.madamasr.com/ar/2020/10/01/feature/%D8%A7%D9%82%D8%AA%D8%B5%D8%A7%D8%AF/%D9%87%D9%83%D8%B0%D8%A7%D8%A3%D8%AC%D8%A8%D8%B1%D8%AA%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%88%D9%84%D8%A9%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%84%D8%A7%D8%AD%D9%8A%D9%86%D8%B9%D9%84%D9%89%D8%B2%D8%B1%D8%A7%D8%B9%D8%A9/

تراث الاستعباد وصل الى تهديد الجنرال السيسي علنا امام العالم كلة يوم 29 اغسطس 2020 للناس بالابادة والتدمير واحضار قوات الجيش لغزو أرجاء البلاد

هكذا أجبرت الدولة الفلاحين على زراعة «الطوب والإسمنت» 


مدى مصر / فى أول أكتوبر 2020 / مرفق الرابط

في نهاية أغسطس الماضي، حذر الرئيس عبدالفتاح السيسي بنبرة حادة من التعديات على الأراضي الزراعية. لم يكن تحذير الرئيس جديدًا. هناك تاريخ طويل من الشد والجذب بين الفلاحين والدولة، ربما بدأ في 1966، حينما تم إقرار قانون لمنع تحويل الأراضي الزراعية لأراضي بناء. لكن تحذير الرئيس أحدث نوعًا من الجدل، حيث هدد باستدعاء الجيش، وهو تهديد يعيد للأذهان مواجهات جيش محمد علي وخلفائه لقمع الانتفاضات الفلاحية، بالإضافة لكونه تهديدًا ضد القاعدة الاجتماعية الأكثر صلابة لنظام «دولة يوليو». من أجل فهم ذلك التهديد، علينا العودة لتاريخ طويل من الصراع بين الدولة والفلاحين.

غالبًا ما كان الفلاحون في مرمى نيران الدولة في العقود الأخيرة، فيما يتعلق بالبناء على الأراضي الزراعية. ساهم هذا الخطاب في جعلهم دائمًا في موضع الاتهام، فهؤلاء الفلاحون الجشعون لا يخافون على رقعتنا الزراعية المتناقصة! ويهددون أمن مصر الغذائي! لم تكف الدولة طيلة العقود الأخيرة عن التأكيد على ضرورة الحفاظ علي الأراضي الزراعية وتحجيم الهجرة الريفية نحو المدينة.

بالطبع لعب الفساد والمحسوبية دورًا مركزيًا في شيوع ممارسات البناء على الأراضي الزراعية. وكان هذا الفساد دافعًا لغياب قدرة الدولة على ضبط الحيز العمراني وتخطيطه بشكل رسمي، رغم امتلاكها حرفيًا ترسانة من المؤسسات والقوانين التي تمكنها حتى من لعب الدور الأبرز في مجال التخطيط الحضري.

لكن، الفساد لم يكن وحده هو ما دفع الفلاحين الصغار لتبوير أراضيهم الزراعية والبناء عليها، خاصة على تخوم المدن الكبرى. بل كانت ميكانزمات أعقد تضرب بجذورها في النمط التنموي للدولة المصرية، خاصة منذ يوليو 1952. تلك التحولات الاقتصادية التي شهدتها مصر منذ 1952 وحتى الآن، شجعت على شيوع تلك الممارسات. ففشل التجربة التنموية المصرية في مرحلتي التخطيط المركزي والنيوليبرالية التي تلت الانفتاح، كان دافعًا رئيسيًا لشيوع المضاربة العقارية في طول البلاد وعرضها.

لكن، على أرض الواقع كانت كل تدخلات الدولة وطرق إدارتها للأراضي في مصر تشجع على العكس. ومن خلال النظر لتاريخ العلاقة بين الدولة والفلاحين، يمكننا الإجابة عن سؤالين. الأول: لماذا يبني الفلاحون علي الأراضي الزراعية؟ أو بمعني أصح لماذا لعب الفلاحون دورًا عقاريًا متزايدًا فيما تلى الانفتاح الاقتصادي وحتى الآن؟ وكيف لعب فشل النموذج التنموي في مصر الدور الأهم في تسريع عملية البناء علي الأراضي الزراعية؟

تمتلك الدولة فعليًا 96% من الأرض في مصر

ارتبط التحديث في أوروبا بمركزية المصنع على حساب الأرض، والتي بدأت تفقد كونها مصدرًا أساسيًا للتراكم الرأسمالي، لتتحول أوروبا الإقطاعية مع الوقت لأوروبا الصناعية. ظلت الأرض تحتل موقعًا مهمًا في هيكل الإنتاج بوصفها أحد عناصره، لكن تلك المكانة التي احتلتها الأرض كانت تقل مع الوقت. فمع انتقال أعداد كبيرة من الفلاحين نحو المدن، فقدت الأرض قيمتها كمنتج للريع، لصالح المصنع، الذي أضحى مع التطور التكنولوجي الواضح في منتصف القرن التاسع عشر، منتجًا لأرباح كبيرة.

لكن، في حالة الدول التي دخلت مرحلة التحديث الصناعي متأخرة، مثل مصر، ظلت الأرض موردًا أساسيًا للتراكم الرأسمالي. وبالتالي، شكّل الصراع على الأرض صراعًا بشأن الوجود والثروة في بلد فشلت فيه كل التجارب التنموية تقريبًا.

امتد هذا الصراع حول الأرض من نشأة الدولة الحديثة في مصر في عهد محمد علي. يمكن القول إن انتصار محمد علي في هذا الصراع واحتكاره لحق توزيع الأراضي، هو ما مكنه من إنشاء دولته. فمن أجل أن يحتكر الرجل المجال الاقتصادي للدولة حصرًا، كان عليه أن يحتكر الأرض.

تظل علاقة الدولة بالأرض في مرحلة محمد علي شديدة التعقيد، ربما لأن أشكالًا مختلفة من الملكية وحقوق الانتفاع والحيازة كانت منتشرة قبله. بالتالي، لم يستطع محمد علي، مع كل ما تمتع به من مميزات رجل الدولة القوي، أن يُنهي كل تلك الأشكال. وبعد ما يقرب من قرنين على تأسيس الدولة الحديثة في مصر، ما زالت الأرض هي محور الصراع في مصر، وضلع أساسي في تحقيق التراكم الرأسمالي. وتستمر حتى الآن صراعات معقدة ومركبة بين الدولة والمجتمع حول الأرض وطرق إدارتها وتقسيمها.

بحسب تقدير جليلة القاضي في كتابها «التحضر العشوائي»، تمتلك الدولة فعليًا 96% من الأرض في مصر. ساهم في ذلك التركز الشديد للسكان حول وادٍ ضيق. لكن، ما جعل الدولة تمتلك كل هذا فعليًا أنها، ومنذ تأسيسها، لم تولِ اهتمامًا كبيرًا للملكية الخاصة. بمعنى أصح، لم تتأسس الدولة المصرية على حق الملكية الخاصة. وتمكنت الدولة، من خلال الحفاظ على هامش ضيق من الملكية الخاصة، من ضبط المجتمع بشكل أكبر.

لم تترسخ الملكية الخاصة العقارية في مصر سوى في العقدين الأول والثاني من القرن العشرين، بإصرار من الاحتلال الإنجليزي. أول قوانين الملكية الخاصة العقارية صدر في 1882، وهو تاريخ بداية الاحتلال الإنجليزي، والذي عمد إلى ترسيخ الملكية الخاصة لأهميتها القصوى للتراكم الرأسمالي. ومن خلال السماح للشركات الأجنبية والمصرية العاملة في مجال التطوير العقاري والزراعي بشراء الأراضي من الدولة، نشأت الملكية الخاصة في مصر.

وبعد ثورة يوليو 1952، كان قانون الإصلاح الزراعي الأول، أحد أوائل قوانين الدولة الجديدة. لم يكن الإصلاح الزراعي من بنات أفكار الرئيس جمال عبدالناصر والمحيطين به، بل كان فكرة موجودة عند الاحتلال الإنجليزي نفسه أشار لها عدد من الباحثين. لكن الدولة الناصرية، وعبر قوانين الإصلاح الزراعي الثلاثة، أعادت لنفسها دور محتكر الأرض. في مقابل ما يقرب من 800 ألف فدان وزعتها على  الفلاحين، احتفظت الدولة لنفسها بما يقارب مليون فدان من الأراضي، بحسب جليلة القاضي.

على العكس من الاعتقاد السائد بأن الأثر الأكبر للإصلاح الزراعي كان على الجانب التوزيعي، من ناحية، لم يشمل توزيع الأراضي الفلاحين المعدمين غير المالكين للأرض، بل أصحاب الحيازات الزراعية الصغيرة والمتوسطة. ولم يوزع الإصلاح الزراعي سوى 818 ألف فدان خلال الفترة بين 1952-1970، أي حوالي 12.5% من الأراضي الزراعية، وتم توزيعها علي 343 ألف أسرة تضم نحو 1.7 مليون فرد أي حوالي 9% فقط من سكان الريف في تلك الفترة، بحسب محمود عبدالفضيل في كتابه «التحولات الاقتصادية في الريف المصري».

لكن الإصلاح الزراعي تسبب في تحسن الدخل والوضع القانوني للفلاحين المستأجرين. قبل دولة ناصر، كان كبار الملاك يُأجرون الأراضي بأسعار مرتفعة للفلاحين. ومع قانون الإصلاح الزراعي الأول في 1952 تم تثبيت الإيجارات الزراعية. وكان تثبيت الإيجارات الزراعية الذي حققه قانون الإصلاح الزراعي الأول في 1952 يعني توقف عملية استخلاص القيمة الاقتصادية من الريف، ولو بشكل جزئي، حيث كان لهذا التثبيت قدرة كامنة على إضعاف سطوة كبار الأعيان في الريف، لأن الأرض تحولت من مصدر للريع إلى عبء. لذلك سارع كثير منهم لبيع الأرض قبل أن تصبح عرضة للتوزيع أو الإيجار المتدني.

على المستوى الكلي للاقتصاد، كان تثبيط الريع الإيجاري الناتج من الأرض، محفزًا لتوجه استثمارات القطاع الزراعي نحو القطاع الصناعي، بما يتماشى مع توجهات دولة ناصر، خاصة سياسات التصنيع وإحلال الواردات.

لكن، من ناحية أخرى، استمر نزع القيمة من الريف والإفقار الريفي بسبب سياسات دولة يوليو أيضًا. أعادت سياسات التسعير الإجباري للحاصلات الزراعية والتوريد الإجباري لتلك المحاصيل، إنتاج عملية استخراج القيمة الاقتصادية من الريف نحو المدينة التي تقع بها مجمل الأنشطة الصناعية والإدارية. يمثل الفارق بين سعر الحكومة وسعر السوق للمحاصيل ضريبة فعلية يدفعها الفلاح من دخله الزراعي للدولة. وحتى بالنسبة للمحاصيل التي لا يوردها الفلاحون للدولة، فإن سياسات التسعير الجبري تسببت في تقليص حجم الأرباح التي يمكنهم تحقيقها من البيع للسوق والتجار.

هذه القيمة الاقتصادية اُنتزعت من الريف نحو الحضر، لأن معظم مؤسسات الدولة الإدارية والإنتاجية تقع في الحضر. اُستخدمت هذه القيمة في تمويل دولة الرفاهة الاجتماعية، خاصة في الحفاظ على الدعم الغذائي الموجه للمدينة، وفقراء المدن بشكل خاص. وبالتالي، لعب الفلاحون بشكل غير مباشر دور الممول الحقيقي لدولة الرفاهة.

في بدايات السبعينيات، بدأ صراع آخر حول الاحتكار العقاري للدولة. حاول نظام الرئيس أنور السادات الافتراق عن التجربة الناصرية. وتحت ضغوط بعض الطبقات الاجتماعية من الملاك الزراعيين والشرائح البرجوازية المُمَثَلة بشكل كبير في مؤسسات النظام، بداية من الاتحاد الاشتراكي والبرلمان وحتى الحكومة، صدرت قوانين وقرارات مختلفة.

ضمن هذه القرارات جاء رفع الحراسات المفروضة على الأراضي الزراعية، والذي أدى إلى بيع ما يقرب من 600 ألف فدان منها للقطاع الخاص. كما أُعيدت للأوقاف الأراضي التي وضعت تحت الحراسة في الفترة الناصرية، وأُدرجت ضمن أملاك المحليات.

وبعد مرور ما يقرب من أربعة عقود على يوليو 52، فقد الفلاحون مكتسبهم الوحيد من الإصلاح الزراعي والمتمثل في تثبيت الإيجارات الزراعية. ففي 1992، أقر البرلمان -في طور التحول النيوليبرالي المتسارع منذ بداية التسعينيات- قانون «المالك والمستأجر»، والذي رفع أسعار الإيجارات الزراعية من خلال إخضاعها لآليات السوق.

ومع تطبيق قانون الإيجارات الزراعية في 1997، تسارعت عملية الإفقار الممنهج لطبقة الفلاحين الفقيرة بالأساس في تلك الفترة. زادت وتيرة رسملة الزراعة المصرية وإدخال نموذج الزراعة الرأسمالية الكبيرة، خاصة في الأراضي الجديدة التي تم استصلاحها من أجل خدمة هذا الغرض، بينما بقي الوادي والدلتا يمثلان نوعًا من المقاومة أمام هذا التحول الكبير.

النزع المستمر للفوائض الاقتصادية من الريف، والذي يقطن فيه معظم سكان مصر حتى الآن (57% من السكان)، كان يعني هجرات مستمرة من الريف نحو المدينة من أجل الحصول على فرص عمل في قطاعات خدمية متدنية الأجور، والتي لم تنجح في استيعاب فائض العمالة الكبير القادم من الريف، على الرغم من الطفرة التي شهدتها منذ الثمانينيات.

حاولت الدولة التعامل مع أزمة حركة الهجرة من الريف للمدن. شيدت الدولة العديد من المناطق الصناعية حول القاهرة بهدف تقليل التركز السكاني في العاصمة. مدن مثل السادات، 6 أكتوبر، والعاشر من رمضان، وغيرها، كانت جزءًا مهمًا في تلك الاستراتيجية.

لكن، استجابة الدولة لهذا الطلب الجديد لم تكن استجابة نوعية عبر بناء مساكن شعبية رخيصة. في المقابل، اكتفت الدولة بالاستجابة الكمية من خلال بناء مساكن موجهة للطبقة الوسطى المدينية بالأساس أو للأغنياء في حالة المجتمعات المسورة. أنتج هذا في النهاية نموًا عمرانيًا مشوهًا سواء في العمران القائم أو في المدن الجديدة. طبقًا لتعداد 2017، تمثل الوحدات المغلقة في مصر ما يقارب 11.7 مليون وحدة سكنية. تكفي هذه -نظريًا- لسكن 50 مليون مصري، أي نصف عدد السكان. ومع ذلك، يستمر البناء غير الرسمي والبناء على الأراضي الزراعية، لأنه الوحيد القادر على سد احتياجات السكن لملايين من السكان الفقراء.

مع اكتظاظ المدن، وخاصة القاهرة، نشأت ضواحي وأحياء كاملة على الأراضي الزراعية المتاخمة لها، مدفوعة بفقر هؤلاء الفلاحين، وفشل برامج الإسكان الاجتماعي الرخيص والمدن الجديدة في استيعاب الطلب الهائل على السكن. مناطق مثل ضواحي عين شمس والخصوص وضواحي فيصل، وغيرها، كانت مثالًا على ذلك.

يشير ديفيد سيمز في كتابه الرائد حول العمران في القاهرة «فهم القاهرة: منطق مدينة خارج السيطرة Understanding Cairo: The Logic of a City Out of Control» أن القطاع الخاص غير الرسمي، والمبني بالأساس على عمليات تقسيم الأراضي والبناء بعيدًا عن مشروعات الإسكان القومية كان الموفر الأساسي للسكن في القاهرة. طبقًا له، لم تستوعب المدن الجديدة سوى 15% من الزيادة السكانية في القاهرة بين عامي 1996-2006، بينما استوعب العمران غير الرسمي 79% من تلك الزيادة السكانية خلال نفس الفترة.

بالتوازي مع هذا، بدأت موجة أخرى من البناء غير الرسمي. هذه المرة، توسعت لتشمل القرى نفسها، وليس فقط الأراضي الزراعية المتاخمة للمدينة. أصبحت القرى نفسها عرضة لذلك بفعل النمو السكاني وعجز الدولة عن توفير أماكن سكن رخيصة. لم تعد ضواحي مثل فيصل كافية للطلب على السكن غير الرسمي، بسبب ارتفاع الأسعار والمضاربات العقارية. وفضّل الكثير من العمال البناء في قراهم الأصلية ودفع تكلفة التنقل يوميًا بين المدن والريف. وتسبب هذا في طفرة بناء على أراضٍ زراعية في الريف بدون ترخيص بناء، وبدون أي تدخل من الدولة. وانتزعت هذه الطفرة شريحة كبيرة من الفلاحين من الفقر، وتحول بعضهم إلى مضاربين عقاريين، ما ساهم في توسعها واستمرارها.

المساهمة الكبرى للدولة في تشجيع البناء على الأراضي الزراعية كانت قانون الإيجار الجديد، والذي رفع أسعار الإيجارات، وجعل الإيجار في المدينة شيء مكلف بالنسبة للوافدين الجدد إليها وحتى السكان القدامى فيها. كان الإفقار المستمر للفلاحين، وتحول الزراعة الصغيرة في مصر لنمط غير مربح اقتصاديًا، هو العامل الحاسم في تبوير الفلاحين الصغار لأراضيهم. أصبح انتظار «كردون المباني» بمثابة انتظار الفرج. فالأرض التي تقع بالقرب من الحيز العمراني الذي تقره الدولة هي الأعلى سعرًا، ومن ثم كانت الترتيبات المؤسسية الرسمية وغير الرسمية للتخطيط العمراني تلعب دورًا فعالًا في تسريع عملية المضاربة على الأراضي في الريف.

خلال العقود الأخيرة، يمكن التمييز بين نمطين من تقسيم الأراضي بغرض التنمية العمرانية. الأول هو النمط الرسمي التي تسيطر عليه الدولة بأجهزتها المختلفة بوصفها المالك الأكبر للأراضي في مصر. تلك الأجهزة تشمل الجيش ووزارة الإسكان وهيئة المجتمعات العمرانية والأجهزة المحلية المختلفة. غالبًا ما قسمت تلك الأجهزة الأراضي لصالح القطاع الخاص الكبير (شركات التنمية العقارية) التي توسعت في القطاع السكني منذ الثمانينيات بغرض التوسع في مدن الصحراء. أو خصصتها للجمعيات التعاونية الإسكانية التي حصلت على الأراضي بأسعار زهيدة، وكانت فاعلًا أساسيًا في المضاربة على الأراضي في الثمانينيات والتسعينيات.

النمط الثاني، هو النمط غير الرسمي، ولعب فيه الملاك الصغار للأراضي الزراعية، خاصة تلك المتاخمة للمدن. لا تتطلب عملية التقسيم نفسها رأس مال كبير. يكفي للمالك أن يضع لوحة فقط على الأرض بأنها معروضة للبيع ويقوم بعدها لبيعها للمقاولين أو للأشخاص الراغبين في البناء بشكل فردي. تميز جليلة القاضي في كتابها «التحضر العشوائي» بين ثلاثة أنواع من مقسمي الأراضي المالكين لها. النوع الأول: فلاحون فقراء مجبرون على بيع مساحات صغيرة لا تكفي للنشاط الزراعي. الثاني: ملاك مدينيون غائبون لا يمارسون الأنشطة الزراعية. بينما النوع الثالث هم ورثة فلاحين متعلمين لا يريدون مواصلة مهنة آبائهم.

من أجل تبوير تلك الأراضي الزراعية، لجأ الملاك لحيل عديدة تحت نظر الدولة (وفي أحيان كثيرة بمساعدة أجهزتها). إحدى أشهر تلك الحيل كانت مصانع الطوب الأحمر، والتي شهدت انتعاشة كبيرة في السبعينيات. كان ملاك تلك المصانع يدفعون خمسة آلاف جنيه للفلاحين من أجل تجريف طبقة الطمي لكل فدان لاستخدامها في صناعة الطوب الأحمر، وهو ما استمر حتى الآن. فالطوب الأحمر ما زال يمثل الوسيلة الأكثر انتشارًا للبناء في عموم مصر، بحسب جليلة القاضي. بعد تجريف طبقة الطمي، تصبح تلك الأرض غير صالحة للزراعة، مما يمهد لتحولها لأرض عقارية عبر ترتيبات مؤسسية رسمية وغير رسمية.

كانت تلك العمليات المتسارعة من التعدي على الأراضي الزراعية مدفوعة بعاملين أساسيين. أولهما، الميزة النسبية للأراضي الزراعية عن الأراضي الصحراوية. الأراضي الزراعية أقرب للمركز من الأراضي الصحراوية، وقريبة من مصادر الطاقة والنيل والسكك الحديدية، بالتالي فهي أسهل وأرخص في البناء والسكن وكل الاستخدامات الصناعية والسكنية لتلك الأرض. العامل الثاني كان التغيرات في النمط الاقتصادي. الهجرة المتزايدة للخليج جعلت الاستثمار العقاري أكثر جاذبية كمخزن لمدخرات العاملين في الخليج. كما كان الطريقة المثلى والأكثر نجاعة لتلبية الطلب على السكن، خاصة في ظل رغبة هؤلاء في السكن بالقرب من مدنهم وقراهم الأصلية بعد عودتهم من الخليج وليس الخروج لمدن الصحراء.

مع هذا التوسع العمراني، كان من المنطقي أن يؤدي تكامل نظامي السكن الرسمي وغير الرسمي إلى حل أزمة الطلب على السكن. لكن على العكس من ذلك، أدى النقص في بناء المساكن الشعبية، سواء عبر مشروعات الإسكان الاجتماعي أو عبر الجمعيات التعاونية للإسكان، وتأخر تسليم تلك الشقق في أحيانٍ كثيرة، وشيوع ممارسات الفساد والمحسوبية في الحصول على شقق الدولة، في رفع أسعار الشقق في النمط غير الرسمي للسكن. وبالتالي، ازدادت عمليات تبوير وتقسيم الأراضي، خاصة في تخوم المدن الكبرى كالقاهرة والإسكندرية، لأنها أصبحت أكثر ربحية الآن.

لم تكن دولة مبارك المنتشية بتحويلات العاملين في الخليج تريد أي شيء آخر سوى تلك التحويلات. فكرة مبارك كانت، تعويض الرقعة الزراعية المفقودة من خلال استصلاح أراضي في الصحراء. ولم تتدخل بشكل جدي لوقف هذه المأساة.

تحول الاقتصاد شيئًا فشيئًا نحو العقارات، وأصبح حلم كل شخص أن يمتلك بيته الخاص. كان هذا هو النسخة المصرية من الحلم الأمريكي. سوف نسافر جميعًا للخليج، نحصل على المال ونعود لشراء قطعة أرض يمكننا أن نبني عليها منزلًا.

لهذا تعاملت دولة مبارك مع أزمة التعدي علي الأراضي الزراعية بكثير من التهاون. فعلى الرغم من تحذير الخطاب الإعلامي لها من ذلك، إلا أنها كانت تدرك أن هذا جزءًا من ترتيبات الفساد والمحسوبية للحزب الوطني، ومدخل هام للسيطرة السياسية وتوزيع الأرباح على الداعمين وشراء الولاءات في الريف. ليس عجبًا أن يكون كمال الشاذلي وأحمد عز، أحد أبرز رجالات الحزب الوطني، متورطين في قضايا تعدٍ على أراضٍ زراعية. الشاذلي نفسه كان عاملًا مهمًا في تسهيل البناء على الأراضي الزراعية في دائرته بالباجور في محافظة المنوفية.

ومع قيام ثورة يناير 2011، توسعت عمليات تبوير الأراضي الزراعية والبناء عليها. بحسب تقدير رئيس الوزراء الحالي مصطفى مدبولي، «مصر فقدت 400 ألف فدان من أجود الأراضي على مستوى العالم، منها 90 ألف فدان منذ 2011 فقط».

اليوم، وبعد عقود طويلة من التعدي علي الأراضي الزراعية، تريد الدولة أن تبدأ صفحة جديدة بلا تعديات خوفًا على الأمن الغذائي. «لو مفيش قرار لمنع البناء العشوائي على الأراضي الزراعية، محدش يعرف مصيرها بعد بضعة سنوات»، يقول مدبولي. وبالتالي، فإن الدولة لن تتسامح بعد الآن مع مثل تلك المخالفات.

الأهم أن الدولة تريد تحجيم القطاع غير الرسمي. فالبناء بدون رخصة أو البناء على الأراضي الزراعية أو مخالفات تعلية الأدوار أو غيرها، ليست مشكلة في حد ذاتها فقط، لكنها أيضًا موارد ضريبة مهدرة تتطلع الدولة للاستفادة منها. تريد الدولة أن تجعل كل شيء يخص القطاع العقاري رسميًا يمكن مراقبته وإخضاعه للضرائب، وهو ما يتوافق مع محاولاتها الدؤوبة لرسمنة كل شيء في الاقتصاد. قوانين مثل التصالح في مخالفات البناء واستحداث منظومة جديدة للتسجيل العقاري تشمل عمل شهادة رقم قومي لكل عقار أو شقة، هي محاولة مستمرة نحو الرسمنة والسيطرة على القطاع غير الرسمي في العقارات. لا تريد الدولة أن تهدم العقارات التي بُنيت علي الأراضي الزراعية، فهي تعرف أن ذلك مستحيل ويهدد ملايين البشر بالتشرد حرفيًا. مشاهد الهدم وإخلاء المنازل، ورغم ندرتها إذا ما قورنت بحجم المخالفات والتعديات على الأراضي الزراعية، أثارت بالفعل الكثير من الغضب بين المصريين.

بالتالي، يبدو من التبسيط المخل اعتبار أن الهدف الوحيد لقانون التصالح الحالي جباية الأموال، ولكن أيضًا جزء من منظومة كاملة هدفها سيطرة الدولة على القطاع العقاري وتمهيد الطريق لجباية ضريبية من هذا القطاع المتضخم من خلال قانون الضرائب العقارية والتصرفات العقارية الذي سبق إقراره.

لكن، الدولة ما تزال عاجزة عن علاج الأسباب الهيكلية للبناء على الأراضي الزراعية. ما زالت الزراعة الصغيرة في مصر عملية غير مربحة اقتصاديًا. وبالتالي، سوف يعمد المزيد من الفلاحين الصغار لتحويل قطع أراضيهم الزراعية الصغيرة لأراضٍ من أجل البناء. ناهيك عن قدرة الأجهزة المحلية على ضبط هذا الحيز العمراني الضخم، وحجم الفساد والمحسوبية السائد في الجهاز البيروقراطي، والذي يُصعب من مهمة رسمنة كل شيء بين عشية وضحاها.

هناك أيضًا أسباب أخرى خاصة بالقطاع العقاري في مصر. على الرغم من وعود الدولة ببناء مليون وحدة سكنية، إلا أن تلك الوحدات ليست موجهة لسكان الريف. وعلى ما يبدو، ما زال صانعو القرار يتعاملون مع الحق في السكن على أنه حق لسكان المدن فقط، وليس لسكان الريف كذلك. كما أن غياب القطاعات كثيفة التشغيل التي تستوعب فائض العمالة والسكان في الريف تحديدًا، يجعل الفلاحين بلا أي دخول حقيقة يمكنها أن تثنيهم عن السعي لتبوير أراضيهم للبناء عليها، وتحول بعضهم إلى مقسمي أراضٍ صغار ومضاربين عقاريين غير رسميين.

الخلاصة، الدولة تريد أن تنهي مسألة التعدي على الأراضي الزراعية بدون الإجابة على الأسئلة والأسباب التي دفعت هؤلاء الفلاحون لتبوير الأرض والبناء عليها، وهو ما يمثل استحالة عملية بدون تغيرات جذرية في العلاقات الاقتصادية بين الريف والمدينة وتغيرات أعمق في نمط الاقتصاد ككل في مصر. وبدون قدرة حقيقة لاستيعاب الفائض السكاني في الريف في أنشطة اقتصادية بأجور مجزية وسكن ملائم، فسوف يستمر البناء والتعدي علي الأراضي الزراعية. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.