مجلة ''رواق عربي'' الصادرة عن مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان:
تنامي ممارسات السلطوية الرقمية في زمن كوفيد-19: دول شمال إفريقيا نموذجًا
نشر بتاريخ اليوم الاثنين 21 ديسمبر 2020 / مرفق الرابط
خلاصة
اعتمدت مختلف الحكومات في دول شمال إفريقيا مجموعة من التدابير والإجراءات لمواجهة انتشار فيروس كوفيد-19، وعلى رأسها توظيف تكنولوجيا المعلومات والاتصال. وعلى قدر الأهمية التي تكتسبها هذه التكنولوجيا الرقمية من خلال أهدافها الصحية المعلنة، إلا أن اعتماد قوانين قمعية وتعسفية مع إدخال أدوات مراقبة رقمية حديثة يتجاوز في كثير من الأحيان هدفها الأصلي الذي يتمثل في مواجهة انتشار فيروس كوفيد-19 وحماية الصحة العامة، إلى تكريس ممارسات السلطوية الرقمية التي تستهدف بسط مراقبة شاملة على المواطنين، والتي تتنافى مع قواعد احترام حقوق الإنسان والحريات العامة ومبدأ الخصوصية، خصوصًا في الجانب المتعلق بحماية حرية الإنترنت، وبروز خطر انتهاك الخصوصية والبيانات الشخصية، كما تُمكِّن المراقبة الرقمية هذه الأنظمة من بسط سيطرتها وهيمنتها السلطوية عن طريق إسكات أصوات الاحتجاج الشعبي ووسائل الإعلام المستقلة والمعارضين مع بروز مخاوف كثيرة حول إمكانية استمرار هذه المراقبة الرقمية حتى بعد نهاية أزمة كوفيد-19.
مقدمة
إن إيجابيات الإنترنت باعتبارها آلية مثمرة في سبيل تمكين الشفافية وزيادة المشاركة الديمقراطية مفهومة على نطاق واسع، وغالبًا ما تُعتبر أمرًا مفروغًا منه، ومع ذلك شهدت أزمة كوفيد-19، زيادة عالمية تدريجية في السلطوية الرقمية. وتبقى أكثر تجسيدًا على مستوى دول شمال إفريقيا، حيث غدت عمليات إغلاق الإنترنت والرقابة عليها والمراقبة الجماعية وانتهاكات حقوق الخصوصية أكثر تواترًا في هذه الدول، إذ لا يضمن للمواطنين حقوق رقمية كافية، وعليه أضحت تلك الدول تقدم خدمات الإنترنت بشكل متزايد باعتبارها تهديد للديمقراطية، وحتى كأداة يمكن أن تتيح أشكالًا من «الشمولية ما بعد الحداثة». لقد تدهورت حرية الإنترنت في دول شمال أفريقيا بشكل كبير مع بروز عناصر مستقبل بائس لمراقبة الفضاء الإلكتروني، والتحكم والتلاعب إلى الحد الذي يشبه غرفة «1984» لجورج أورويل، أو ما يعبر عنه بالأخ الأكبر يراقبك، أو تكريس «مجتمع البانوبتيك» كما نظر له كل من «جيريمي بنثام»، و«ميشيل فوكو»[1].
يعتبر الاستخدام المتزايد للإنترنت في دول شمال أفريقيا تحديًا حقيقيًا لأنظمتها السياسية، مما جعلها تبتكر استراتيجية شاملة لمواجهة أي تحد من خلال الرقابة والسيطرة القوية للدولة على الإنترنت ووسائل الإعلام، بمعنى أصبحت تشهد هذه الدول تنامي ممارسات السلطوية الرقمية –خصوصًا في زمن كوفيد-19– إذ يواجه المدونون والمعلقون عبر الإنترنت أيضًا خطر الاعتقال بشكل دائم. إن القيود على الوصول إلى المعلومات والتعبير عن الآراء لا تنتهك حقوق المواطنين فحسب، بل تنتهك أيضًا حقوق الصحفيين ووسائل الإعلام وحقهم في التعبير عن الأفكار وتسويقها.
إن التهديد المتزايد للاحتجاجات لم يغب عن الأنظمة السياسية لدول شمال أفريقيا، مع إدراكها جيدًا للدور الذي لعبته وسائل التواصل الاجتماعي في اندلاعها، تتعلم هذه الدول السلطوية أيضًا استخدام الأدوات الرقمية لقمع المعارضة، وعلى الرغم من أن التكنولوجيا قد ساعدت في تسهيل الاحتجاجات، إلا أن هذه الأنظمة السلطوية بفعل انفتاحها على الذكاء الاصطناعي، تستخدم بعض الابتكارات التكنولوجية نفسها للرد على عمليات التعبئة الشعبية الخطيرة، فهي تستخدم التكنولوجيا ليس فقط لقمع الاحتجاجات، ولكن أيضًا لتشديد أساليب السيطرة القديمة، فبالإضافة إلى أنها تزيد من استخدامها للقمع الرقمي، فإنها تميل أيضًا إلى زيادة استخدامها لأشكال الممارسات العنيفة «في الحياة الواقعية»، لاسيما القمع والاعتقال والتعذيب.
إن تكثيف ممارسات السلطوية الرقمية في دول شمال أفريقيا أملته النزعات السلطوية المتجددة لهذه الأنظمة، والتي رأت في أزمة كوفيد-19، فرصة ذهبية سانحة لا يمكن تفويتها لتثبيت مقومات السلطوية الرقمية –التي يمكن أن تكسب مشروعيتها في صفوف فئات عريضة من المواطنين، بفعل أهدافها الصحية المعلنة، وعامل الخوف المنتشر بين صفوف المواطنين– وهذا ما يظهر جليًا بفعل حزمة التدابير الاستثنائية والتطبيقات الإلكترونية التي تم اعتمادها، وأضف إلى ذلك الفعل التعسفي والقسري في تعقيداتها و إجراءاتها. ومن أجل مقاربة وتفكيك موضوع هذه الورقة سنعتمد على منهجية علمية ونقدية تضع في حسبانها ضرورة استحضار مختلف الدعامات والمؤشرات والحجج التي تدعم تنامي ممارسات السلطوية الرقمية في زمن كوفيد-19 بدول شمال أفريقيا مع استجلاء مختلف مظاهرها، عن طريق التركيز على أربع دول فقط، المغرب، مصر، الجزائر، وتونس. وعلى هذا الأساس يمكن التساؤل بدرجة أولى حول كيفية استغلال الأنظمة السياسية لدول شمال أفريقيا لحالتي الذعر واللايقين لبسط وتعزيز تقنيات السلطوية الرقمية؟ وكيف يتم توظيف القوانين بهدف التضييق وتشديد الخناق على حرية الإنترنت وانتهاك مبدأ الخصوصية، والتي يبقى الهدف الأساسي منها هو تكميم الأفواه الناقدة والناقمة عليها، وإسكات صوت المعارضة وقمعها وتصفيتها؟ وكيف تتم عملية قمع حرية الإنترنت وانتهاك مبدأ الخصوصية من خلال إيراد نماذج حية من مختلف الدول قيد الدراسة؟ وكيف تختلط مشاعر الخوف من الخطر الداهم الصادر عن كوفيد-19، والقلق المشروع الذي تفرضه الترسبات القائمة والممارسات المستحدثة التي تفرزها السلطوية الرقمية في ظل كوفيد-19، مع ترجيح تحول المؤقت، أي المراقبة الإلكترونية الشاملة للمواطنين إلى فعل دائم؟ وسعيًا وراء محاولة الإجابة على مختلف هذه التساؤلات المشروعة، ارتأينا دراسة الموضوع وفق العناصر التالية.
استغلال حالتي الذعر واللايقين لتعزيز تقنيات السلطوية الرقمية
إن العيش في قبضة الخوف ليس فقط القلق بشأن الحاضر، بل توقع المزيد من المشاكل في المستقبل، كما يعتبر الخوف بمثابة النقيض للأمل المطلق. إن الوباء الذي يضرب العالم اليوم يزيد من عدم الاستقرار حيث أنه يضفي منسوبًا كبيرًا من عدم اليقين، ويبدو كمعجل لثقافة الخوف الموجودة بالفعل من قبل، وكذلك كشف الجروح التي هي أعمق مما كنا نتصور، وعلى قدر الآثار السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تحدثها الأزمات والكوارث الطبيعية والأوبئة والأضرار الصحية الناتجة عنها، فهي تعتبر بالمقابل بمثابة الظروف المثالية للحكومات والنخبة لتنفيذ أجندات سياسية كانت ستواجه معارضة كبيرة في الحالات العادية. إن هذه المسألة ليست فريدة أو مرتبطة فقط بالأزمة الناجمة عن فيروس كوفيد-19، بل إنها السياسة التي اتبعها المسئولون عن السياسات والحكومات في العديد من الدول منذ عقود من الزمن والتي تعرف ب «مبدأ الصدمة»، وهو مصطلح صاغته الناشطة والمؤلفة «نعومي كلاين» في كتاب عام 2007 يحمل الاسم نفسه «مبدأ الصدمة: صعود رأسمالية الكوارث»، فالكثير من الأفكار والتدابير والإجراءات والقوانين تكون مستلقية وكامنة، في انتظار الأزمات كفرصة ذهبية لتمريرها.[2]
وبناءً عليه، فإن «مبدأ الصدمة» هو الاستراتيجية السياسية التي اتبعتها دول شمال إفريقيا، لاستغلال أزمات واسعة النطاق لدفع السياسات التي تعمق عدم المساواة بشكل منهجي، وتثري الائتلاف المصلحي المهيمن في هذه الدول. تدرك النخب السياسية والاقتصادية أن لحظات الأزمة هي فرصتها لدفع قائمة رغباتها من السياسات غير الشعبية التي تزيد من استقطاب الثروة. ففي لحظات الأزمة، يميل الناس إلى التركيز على حالات الطوارئ اليومية للبقاء على قيد الحياة في خضم تلك الأزمة، أيًا كانت التضحيات والتنازلات التي يقدمونها، ويميلون إلى وضع الكثير من الثقة في أولئك الذين هم في السلطة.
في هذا السياق، وعلى وقع صدمة أزمة فيروس كوفيد-19 وما تمخض عنها من مخاطر وبروز حالة من اللايقين، تشكلت في أذهان الناس تيمة أن الفيروس التاجي يمثل تهديدًا قادمًا يمكن أن يصل إلى كل شخص حتى في منزله، وهذه المخاوف دعمتها أيضًا –وبشكل متطرف– وسائل الإعلام التي تغطي الأحداث في مختلف البلدان التي تعرضت للهجوم من الوباء؛ لأجل تذكية روح «الإحساس بالصدمة»، وذلك عبر إضفاء نوع من الدراما على يوميات انتشار الوباء، التي شكلت واقعًا جديدًا في أذهان الناس، يصبح العنصر الرئيسي فيه ذهانًا غير واع أو متصاعدًا بشكل خاص. هذا الذهان، الناجم عن الخوف المتصاعد بمهارة من الفيروس التاجي، لا يقل خطورة عن الوباء نفسه: يفقد الأشخاص المصابون بالذهان قدرتهم على تقييم الواقع المحيط بهم بشكل نقدي ويندفعون بحثًا عن الخلاص من فيروس تاجي «قادم إليهم»، ليصبحوا قابلين للانقياد والانصياع، إذ يمكنك أن تفعل أي شيء مع هؤلاء الناس، وتبرر أي عمل بـ «مكافحة الوباء»، ولن يقاوموا. وتبقى أزمة فيروس كوفيد-19 بالنسبة لتلك الأنظمة السلطوية، بمثابة الوقت المناسب للغاية من أجل نهج نوع من الإدارة التلاعبية في سبيل شرعنة السلطوية الرقمية.
يُعد تقدم المراقبة المدعومة بالذكاء الاصطناعي في بلدان شمال أفريقيا أهم تطور في الاستبداد الرقمي. لقد فتحت الكاميرات عالية الدقة، والتعرف على الوجه، وبرامج التجسس الضارة، والتحليل الآلي للنص، ومعالجة البيانات الضخمة، مجموعة واسعة من الأساليب الجديدة للسيطرة على المواطنين. تسمح هذه التقنيات للحكومات بمراقبة المواطنين وتحديد المعارضين في الوقت المناسب –وبطريقة استباقية أحيانًا. وهذا ما حفز أكثر دول شمال أفريقيا إلى تسريع وتيرة استخدام تقنيات المراقبة الجديدة مادامت الشعوب منشغلة بأمنها الصحي، إذ تحركت بثبات نحو تجسيد ممارسات السلطوية الرقمية من خلال تبنّي النموذج الصيني للرقابة المكثفة وأنظمة المراقبة الآلية، ونتيجة لهذه الاتجاهات؛ تجسدت مخاطر أكيدة لقمع حرية الإنترنت آنيًا ومستقبلًا، حيث استخدمت حكومات هذه الدول تطبيقات رقمية حديثة تحت ذريعة إعلان الحرب على فيروس كوفيد-19، والتي تخفي وراءها الزحف الأكيد «للسلطوية الرقمية»، مما يدل على أن مستقبل حرية الإنترنت يتعرض للخطر على نحو متزايد بسبب أدوات وتكتيكات السلطوية الرقمية، كما استغلت هذه «الأنظمة القمعية ذات الطموحات الاستبدادية المتجددة المساحات غير الخاضعة للتنظيم في منصات التواصل الاجتماعي وتحويلها إلى أدوات تشويه سياسي وسيطرة مجتمعية»، [3] وعلى هذا الأساس انتقلت التقنيات الرقمية من تمكين المواطنين إلى استخدامها كأدوات للقمع.
ففي المغرب تم اعتماد تطبيق «وقايتي» الذي أثار الكثير من الجدل وردود أفعال مجتمعية وحقوقية مختلفة، حيث كانت المديرية العامة للأمن الوطني قد زودت رجال الشرطة في نقاط المراقبة بتطبيق إلكتروني على هواتفهم الذكية من أجل ضبط تنقلات المواطنين. ويمكّن التطبيق، الذي أعده فريق عمل يضم مهندسين وتقنيين تابعين لمديرية الأنظمة المعلوماتية والاتصال، رجال الشرطة من الاطلاع على نقاط المراقبة التي مر منها المواطن سلفًا، ما يسهل عملية تتبع التنقلات التي تشكل خرقًا لمقتضيات حالة الطوارئ الصحية، واتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة في حق المخالفين، وقد أثار هذا التطبيق مخاوف كثيرة حيث يمكن أن يشكل بداية لتكريس المراقبة الرقمية المعممة التي يمكن توظيفها في أغراض قد تحمل في الغالب طابعًا سياسيًا، كما قد تنتهك مبدأ الخصوصية في تطبيقاتها العملية.[4]
وفي مصر أيضًا أعلنت وزارة الصحة والسكان المصرية إطلاق تطبيق «صحة مصر» على الهواتف لتوعية وإرشاد المواطنين حول كيفية الوقاية من فيروس كوفيد-19 المستجد، وكيفية التعامل عند الاشتباه في الإصابة بالمرض. وحسب بيان للوزارة، فإن جميع المعلومات والبيانات في التطبيق معتمدة من كل من وزارة الصحة والسكان ومنظمة الصحة العالمية، كما يتم تحديثها باستمرار وفقًا لآخر البيانات والمعلومات المتاحة، كما يتيح التطبيق أيضًا إمكانية التواصل مع فريق طبي معتمد لمتابعة الأعراض لأي شخص في حالة وجود اشتباه في الإصابة بالمرض وكيفية التصرف طبقًا للحالة الصحية.[5]
وفي الجزائر تم إطلاق التطبيق التكنولوجي الجديد «طبيب دي زاد»، في أحدث خطوة من السلطات لمواجهة فيروس كوفيد-19، كما طورت شركة الاتصالات الجزائرية تطبيقات أخرى حديثة تبدو فعالة للغاية، [6] وأما في تونس تم اعتماد تطبيق «احمي» للحد من انتشار فيروس كوفيد-19 في البلاد والذي يمكن من تنبيه الأشخاص الذين اقتربوا من حالات مصابة عبر تقنية «البلوتوث». وأفادت أيضًا وزارة الصحة التونسية بتوافر التطبيق على منصتي «أندرويد» و«آي أو إس» الخاصة بشركة أبل.[7] كما استعانت وزارة الداخلية التونسية بـ«جهاز روبوت»على شكل مدرعة صغيرة مجهزة بكاميرات مراقبة وكاميرا حرارية، يتم التحكم فيها عن بعد، ومزودة بنظام «جي بي إس»تجوب شوارع تونس لمراقبة مدى الالتزام بتطبيق إجراءات الحجر الصحي.[8]
ومن المحتمل أن تؤدي استراتيجيات التقنيات الجديدة، مثل ما يسمى بالاستهداف الدقيق والتزييف العميق –عمليات تزوير رقمية يستحيل تمييزها عن الصوت الأصلي أو الفيديو أو الصور– إلى زيادة تعزيز قدرة الأنظمة السلطوية في هذه الدول على التلاعب بتصورات مواطنيها. إذ قد يسمح الاستهداف الدقيق في نهاية المطاف لتلك الأنظمة بتخصيص محتوى لأفراد محددين أو شرائح معينة من المجتمع، تمامًا كما يستخدم العالم التجاري الخصائص الديموغرافية والسلوكية لتخصيص الإعلانات. ستسمح الخوارزميات المدعومة بالذكاء الاصطناعي للأنظمة الأوتوقراطية باستهداف الأفراد بمعلومات تعزز دعمهم للنظام أو تسعى إلى مواجهة مصادر الاستياء المحددة. وبالمثل، فإن إنتاج تقنية التزييف العميق سيجعل من السهل تشويه سمعة قادة المعارضة، وسيجعل من الصعب على الجمهور بشكل متزايد معرفة ما هو حقيقي، ويزرع الشك والارتباك واللامبالاة.
إن اعتماد دول شمال إفريقيا المزيد من التقنيات الرقمية لمراقبة المواطنين بشكل أكثر شمولًا وبتكلفة أقل، وبالإضافة طبعًا إلى المراقبة الرقمية الاعتيادية في الحالات العادية، ومع زيادة فعالية أنظمة المراقبة والتحكم الرقمية، يضاعف بالطبع من الحوافز التي تقدمها هذه الحكومات لدعمها. وعليه لن تؤدي الاستخدامات الفعالة للمراقبة عالية التقنية سوى لتشجيع هذه الحكومات على زيادة الاستثمار في تحسين هذه الأنظمة وتوسيعها وتعميقها؛ للتحكم أكثر والسيطرة أكثر على المعلومات في الفضاء الافتراضي. وبالتالي تركّز هذه التطبيقات القوة في أيدي قلة، بحكم أن هذه التقنيات الحديثة أثبتت فعاليتها وكفاءتها في إطلاق حلقة من المراقبة الأعمق والأكثر انتشارًا، خصوصًا وأن تجارب العديد من الحكومات السلطوية أثبتت مدى نجاعة تقنيات الرقابة الرقمية بالمقارنة مع الحفاظ على شبكة واسعة من المخبرين، وعليه بالنسبة لاستراتيجيتها في بسط المراقبة الشاملة، قد يكون من الأرخص والأسرع بكثير تثبيت أدوات فحص حركة مرور الويب على كل بوابة إنترنت رئيسية في الدولة، بدلًا من إطلاق مخبرين في الشوارع، وقد يكون من الأفضل كذلك تتبع تحركات المواطنين من خلال التعرف على الوجه باعتماد الذكاء الاصطناعي، إذ يبدو أن هذه الأنظمة السلطوية في بلدان شمال أفريقيا غدت تراهن أكثر على هذه المراقبة التقنية العالية التي هي بطبيعة الحال أفضل بكثير من بديلها البشري.
توفر التقنيات الجديدة الآن للحكام في دول شمال أفريقيا طرقًا جديدة للحفاظ على السلطة، تسمح لهم بأتمتة مراقبة وتتبع معارضيهم بطرق أقل تدخلًا بكثير من المراقبة التقليدية. هذه الأدوات الرقمية لا تمكن الأنظمة السلطوية فقط من تشكيل شبكة أوسع من الطرق المعتمدة على الإنسان، بل يمكنهم القيام بذلك باستخدام موارد أقل بكثير: فقد لا يتعين على أي مسئول اعتماد برنامج لمراقبة الرسائل النصية للأشخاص أو قراءة منشوراتهم على وسائل التواصل الاجتماعي أو تتبع تحركاتهم، بل بمجرد أن يعلم المواطنين افتراض حدوث كل هذه الأشياء، فإنهم يغيرون سلوكهم دون أن يضطر النظام إلى اللجوء إلى القمع الجسدي. لا تختلف الرقابة على الإنترنت عن الرقابة التقليدية فيما يتعلق بالغرض منها وهو السيطرة على المعارضة السياسية، أي أنها تمنح الحكومات القدرة في السيطرة على المعارضة والرقابة على وجهات النظر المعارضة على الإنترنت تحت زعم حماية الاستقرار الاجتماعي والسياسي، وهو السبب الأكثر شيوعًا لدى الحكومات لتقييد حرية مواطنيها في التعبير عن آرائهم. الأساس المنطقي الأكثر شيوعًا هو الرقابة السياسية واحتكار السلطة. تفرض دول شمال أفريقيا رقابة صارمة أثناء فترات انتشار فيروس كوفيد-19 عن طريق تصفية المحتوى عبر الإنترنت من أجل الأمن القومي مقابل إتاحة مساحات واسعة للمحتوى الذي يدعم أنظمتها.
القوانين باعتبارها العصى الغليظة لتثبيت السلطوية الرقمية
إن الممارسات المتزايدة للمراقبة والسيطرة على الإنترنت في دول شمال إفريقيا تعد أمرًا مقلقًا، فضلًا عن كونها انتهاكًا صريحًا للحقوق السياسية والمدنية وتهديدًا لحقوق الإنسان والديمقراطية. إن دول شمال إفريقيا استطاعت، وبإحكام، أن توظف عملية صياغة القوانين التقييدية والتعسفية لتطبيقها على مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي، إذ تم تنفيذ عدد كبير من القوانين القمعية لإعاقة الممارسة الحرة للحق في حرية التعبير على الإنترنت من خلال تضمين عقوبات ردعية وزجرية سالبة للحرية، وهذه القوانين تحمل في ثناياها تعبيرات دالة على السلطوية الرقمية، والتي يغذيها أيضًا وجود إرادة مستمرة لدى المشرعين داخل هذه الدول في اعتماد قوانين أكثر تضييقًا وتعسفًا، وهذا ما يظهر من خلال النماذج المعتمدة في مختلف دول شمال أفريقيا.
في هذا الصدد عرف المغرب قبل أزمة كوفيد-19 نهجًا تضييقيًا لحرية الإنترنت بفعل الاحتجاجات التي عرفتها مجموعة من مناطق المغرب وخاصةً احتجاجات الريف، كما كانت السلطات الأمنية مدركةً تمامًا للدور الذي تلعبه وسائل التواصل الاجتماعي في إشعال فتيل الاحتجاجات، ومع حلول أزمة كوفيد-19 ازداد الأمر أكثر، إذ مع الإعلان عن حالة الطوارئ جرت حملات اعتقال كثيرة تحت ذريعة خرق حالة الطوارئ والحجر الصحي أو نشر الأخبار الزائفة، وغالبًا ما يتم الاعتماد على مجموعة من المقتضيات القانونية التي تأتي بصيغة فضفاضة قابلة لتفسيرات وتأويلات مختلفة تخدم بدرجة أولى إرادة السلطات في إسكات أصوات النقد والمعارضة كيفما كان مصدرها سواء الصحافة الإلكترونية أو المواطن العادي، إذ نجد في هذا السياق القانون المتعلق بالصحافة والنشر، [9] الذي يفرض عقوبات مالية على كل من قام بنشر الأخبار الزائفة، إلا أن القانون الجنائي يبقى بمثابة السيف المسلط على رقاب الناشطين والمدونين للتضييق على حرية التعبير الرقمي، من خلال التنصيص على العقوبات الحبسية، ما يعطي الهيئات المعنية بتنفيذ القانون سلطات تقديرية واسعة في إحكام قبضتها على حرية الإنترنت.[10]
خلال ذروة انتشار كوفيد-19، أثارت الاتجاهات الأخيرة للسلطات بخصوص طرح مشروع قانون 22.20 المتعلق باستعمال شبكات التواصل الاجتماعي وشبكات البث المفتوح والشبكات المماثلة مخاوف كثيرة بخصوص التضييق على حرية التعبير الرقمي. في الواقع، إن مشروع القانون يدق أجراس الإنذار حول ما إذا كان سيتم استخدامه كأداة للسيطرة والتلاعب بممارسة حرية الإنترنت، فهناك قلقًا متزايدًا من أنه سيتعين على المجتمع المغربي قريبًا مواجهة عصر السلطوية الرقمية بديلًا عن الديمقراطية الرقمية. وهو ما يمكن أن يشكل مدخلًا أوسع في اتجاه تآكل الحريات المدنية والديمقراطية في المغرب، وتكريس نوع من السلطوية الرقمية الصلبة، التي بموجبها تمارس الحكومة السيطرة على المواطنين من خلال منعهم من الوصول إلى المحتوى أو البيانات وتقييدهم من الوصول أو المشاركة. أو تحقيق نوع من السلطوية الرقمية اللينة التي يعتبرها الباحثون أكثر خبثًا وتزداد بروزًا ببطء. حيث نجد في ظل هذا النوع من السلطوية الرقمية، أن الحكومات والأحزاب السياسية تستخدم البيانات ووسائل التواصل الاجتماعي لمراقبة ونشر المعلومات والتضليل من أجل التحكم في سلوكيات وأفكار المواطنين والتلاعب بها. ويحدث هذا بشكل متكرر، ولكن عادةً بدون موافقة أو معرفة المواطنين.[11]
في مصر كانت السلطات تلجأ خلال السنوات السابقة إلى توجيه اتهامات إلى النشطاء معتمدة على عدة قوانين أبرزها: قانون الاتصالات، قانون العقوبات المصري، وقانون مكافحة جرائم الإرهاب، بحيث تم التركيز على اتهامات مختلفة ومتنوعة من قبيل: إساءة استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، نشر الأخبار الكاذبة، والانضمام إلى جماعة إرهابية، والشيء نفسه ينطبق على ممارسات السلطوية الرقمية في ظل أزمة كوفيد-19 لإسكات أصوات المعارضين والمنتقدين، وهناك أيضًا قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات لحجب المواقع الإلكترونية، والذي وفقًا لمادته السابعة «يمكن حجب المواقع في حالة نشر أي محتوى يُعد جريمة من الجرائم المنصوص عليها بالقانون، شريطة أن تشكل تهديدًا للأمن القومي أو تعرض أمن البلاد أو اقتصادها القومي للخطر»، وهي ألفاظ تكتسي طابعًا عامًا حيث يمكن التوسع في تفسيرها وتكييفها وفق الاتجاه الذي ييسر عمليات التضييق على حرية الإنترنت، بالإضافة إلى أن عملية حجب المواقع هنا تشمل ما يبث من داخل مصر أو من خارجها، إضافة إلى قانون «الجريمة الإلكترونية»، فإن قانون تنظيم الصحافة والإعلام، يعد أحد وسائل السلطة لتقييد المعارضين، ففي مادته التاسعة عشرة، والتي صيغت بألفاظ غير دقيقة وغير محددة، تم منح الجهات المعنية بتطبيق القانون السلطةَ التقديريةَ في حجب المواقع، دون التقيد بمعايير واضحة، كذا منح القانون المجلس الأعلى للإعلام إمكانية حجب الحسابات الشخصية على مواقع التواصل الاجتماعي. ويرسخ القانون بمجمله اتهامات أكثر اتساعًا وتعددًا، حيث يقنن للمرة الأولى قيام السلطات المصرية بحجب الحسابات الشخصية بمواقع التواصل الاجتماعي، وهو ما يعد انتهاكًا لنصوص الدستور المصري والمعايير الدولية ذات الصلة بحماية الحق في حرية التعبير.[12]
في الجزائر وفي ظل غياب قانون خاص بحرية الإنترنت، يتم الاعتماد على مجموعة من القوانين التعسفية للتضييق على حرية الإنترنت خصوصًا مع ارتفاع منسوب الاحتجاجات والتي تزامنت مع أزمة كوفيد-19، إذ نجد قانون رقم 09-04 الذي يتضمن القواعد الخاصة للوقاية من الجرائم المتصلة بتكنولوجيات الإعلام والاتصال ومكافحتها، وهو القانون الذي يتضمن الحالات التي تسمح باللجوء إلى المراقبة الإلكترونية، وأثناء اشتداد الأزمة أيضًا تم تعديل قانون العقوبات، القانون رقم 20-06 المعدل والمكمل للمرسوم رقم 66-156 المؤرخ 8 يونيو 1966 بشأن قانون العقوبات، الذي دخل حيز التنفيذ في 22 أبريل 2020، إذ يحتوي القانون على عدة أحكام تتعارض مع المعايير الدولية بشأن حرية التعبير وحرية تكوين الجمعيات، لاسيما المادتين 19 و22 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، الذي صادقت عليه الجزائر في عام 1989، ففي المادة 196 مكرر في القانون العقوبات «يعاقب بالحبس لمدة من سنة إلى ثلاث سنوات وبغرامة من 100.000 د.ج إلى 300.000 د.ج، كل من ينشر أو يروج عمدًا، بأي وسيلة كانت، أخبارًا أو أنباء كاذبة أو مغرضة بين الجمهور يكون من شأنها المساس بالأمن العمومي أو النظام العام. تضاعف العقوبة في حالة العود». وأضف إلى ذلك عدم وجود تعريف دقيق «للمعلومات الكاذبة» في القانون، وهو الأمر الذي يمنح السلطات سلطة غير متناسبة وسلطة تقديرية تتيح لها قمع المحتوى النقدي والمعلومات المثيرة للجدل، فيما يتعلق بأحكام السجن المنصوص عليها في المادة 196 مكرر، وتعززت المراقبة الإلكترونية أكثر بفعل إحداث هيئة لمكافحة الجريمة الإلكترونية، والتي أثارت الكثير من المخاوف والقلق لدى الجزائريين، حيث يمكن استخدامها وتوظيفها في انتهاك حقوقهم وخصوصياتهم وبياناتهم الشخصية.[13]
بالنسبة لتونس نجد هناك استمرار العمل بالتشريعات والقوانين القمعية والتعسفيّة التي وُظفت إبان حكم بن علي لتكميم الأفواه، وهو ما يشكل خطرًا داهمًا لحريّة الإنترنت بصفة عامة. ونذكر هنا على سبيل المثال، القوانين المتعلّقة بمواصفات شروط بناء وتشغيل خدمات الاتّصالات. التي تتضمن مقتضياتها خرقًا واضحًا للدستور التونسي الجديد المصادق عليه سنة 2014 والذي نصّ على حماية أكبر لخصوصيّة بيانات الاتّصالات ومنع حجب المحتوى الإعلامي قبل نشره، بالإضافة إلى خرق المعايير الدولية لحريّة الإنترنت. وأضف إلى ذلك قانون الإعلام الخاص بقواعد السلوك الصحفي، والمجلّة الجزائية التي تطبّق على حريّة التعبير على الإنترنت، وتجرّم التشهير، كما ينص مثلًا الفصل الرابع والخمسون من المرسوم عدد 115 الخاص بحرية الصحافة والطباعة والنشر على ما يلي: «يعاقب بغرامة من ألفين إلى خمسة آلاف دينار كل من يتعمد نشر أخبارًا زائفة من شأنها أن تنال من صفو النظام العام». أما إذا كان نشر الأخبار الزائفة يهدف إلى زعزعة الأمن العام فيتم حينئذ تطبيق مقتضيات الفصل 68 من المجلة الجزائية الذي يقرّ عقوبات بالسجن تصل إلى خمس سنوات على كلّ مؤامرة واقعة لارتكاب اعتداء على أمن الدولة الداخلي.كما اعتبر الناشطون الإلكترونيون ومختلف مكونات الرأي العام التونسي أن إنشاءَ الوكالة الفنيّة للاتصالات سنة 2014 تهديدًا جديًّا لحريّة الإنترنت، حيث رأوا أنّ هذا الجهاز –الذي تتمثّل مهمتّه الأساسيّة في تأمين الدعم الفنّي للسلطة القضائية في معالجتها جرائمَ أنظمة المعلومات والاتصال والبحث فيها– يمثّل تهديدًا لخصوصية المواطنين التونسيين ويفتح البابَ لعودة سياسة تكميم الأفواه.[14]
في الواقع، إن هذه القوانين المجحفة وغير العادلة التي تعتمدها دول شمال أفريقيا، لن تساهم إلا في تكريس نمط المراقبة الرقمية السلطوية القائم على إغلاق الإنترنت، واعتقال ومراقبة الأصوات الناقدة والمعارضة، كما تعزز إمكانية فرض عقوبات مالية على وسائل الإعلام الاجتماعية، وإغلاق الساحة السياسية الافتراضية أمام المنافسة، وهو ما سيؤدي حتمًا إلى تنامي علامات سلوك سلطوي/استبدادي تخريبي متزايد لحرية الإنترنت، مما سيترتب عليه بالتبعية تآكلًا تدريجيًا للثقة في الإنترنت، فضلًا عن أسس الديمقراطية بصفة عامة. إن تأثير تقييد حرية الإنترنت سيكون له تبعات جسيمة، بالنظر إلى الآليات المحدودة الموجودة لمكافحة هذا التدخل: ضعف النضج المؤسسي، والضوابط والتوازنات المحدودة، والمجتمعات المدنية المجزأة، والأطر التنظيمية المبهمة والدعوة المحدودة للقطاع الخاص، وفي غياب ذلك، تكون الظروف خصبة لسوء المعاملة والانزلاق في ممارسة الحكم الاستبدادي.
استهداف حرية الإنترنت ومبدأ الخصوصية
يشمل مصطلح «حرية الإنترنت» مجموعة واسعة من حقوق الإنسان المترابطة، والتي يُشار إليها غالبًا باسم «الحقوق الرقمية». وتشمل هذه الحقوق الوصول إلى الإنترنت، وحرية التعبير على الإنترنت، والخصوصية الرقمية والحق في طلب المعلومات وتلقيها ونقلها عبر الإنترنت. في حين جادل الكثيرون في كونها تشكل بالفعل حقًا من حقوق الإنسان، إلا أن البعض الآخر يرى أنها أداة يمكن استخدامها لتمكين حقوق أخرى. بغض النظر عن أي منظور يتم تناوله في هذه القضية، أدانت الأمم المتحدة بوضوح أية محاولة لمنع الوصول إلى الإنترنت أو تعطيله عمدًا وشددت على الحاجة إلى حقوق الإنسان لدعم حوكمة الإنترنت. إن حقوق الوصول إلى الإنترنت، وحرية التعبير على الإنترنت، والخصوصية الرقمية والحق في طلب المعلومات وتلقيها ونقلها عبر الإنترنت مدرجة على نطاق واسع في إعلان الأمم المتحدة العالمي لحقوق الإنسان بموجب المادة التاسعة عشرة، يحق للأفراد حرية الرأي والتعبير، بما في ذلك الحق في تلقي ونقل المعلومات والأفكار «من خلال أي وسيلة إعلام وبغض النظر عن الحدود»، وتنص المادة الثانية عشرة على أنه «لا يجوز تعريض أي فرد للتدخل التعسفي في الخصوصية أو الأسرة أو المنزل أو المراسلات أو الاعتداء على شرفه وسمعته».[15]
إن الخصوصية الشخصية، التي كان من السهل الحفاظ عليها إلى حد ما سابقًا، أصبحت في هذا العصر الرقمي أكثر صعوبة، بمعنى أن هناك جانب آخر من جوانب مجتمع المعلومات هو فقدان الخصوصية وهو الأمر الذي تعيش على إيقاعه دول شمال أفريقيا وبدرجة أكبر. العديد من خبراء تكنولوجيا المعلومات (تكنولوجيا الإنترنت)، مثل «دانيال جيه. سولوف»، و«سيبسون جارفينكل»، و«إيفجيني موروزوف»، يشعرون بالقلق حيال كيفية تهديد توسع الإنترنت لخصوصية الفرد. في عام 1984، يتم تعليم المواطنين، حب «الأخ الأكبر» وتبني المراقبة المستمرة والافتقار التام للخصوصية، كطريقة للحياة، اليوم، نوفر عن طيب خاطر ودون اعتبار كبير للحكومات ولشركات الإنترنت المختلفة وصفحات الويب ووسائل التواصل الاجتماعي ومنتديات الدردشة عبر الإنترنت معلوماتنا ومواقعنا وصورنا وتفاصيلنا الشخصية، وحتى أفكارنا ومشاعرنا الداخلية.[16]
السلطوية الرقمية تنتهك على الإنترنت حقًا أساسيًا من حقوق الإنسان: حرية التعبير، إذ تم توثيق مثل هذه الانتهاكات في مختلف بلدان شمال أفريقيا وبدرجات متفاوتة بالطبع، والتي بدورها رسخت قدرة هذه الأنظمة السلطوية في الحفاظ على احتكارها للسلطة السياسية بدلًا من إضعافها، وهو الأمر الذي انعكس في خيبة الأمل التي يشعر بها الكثيرون بشأن فشل الإنترنت وثورة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات في تفكيك الأنظمة القمعية.
في المغرب: باشرت السلطات الأمنية منذ بداية الجائحة حملة اعتقالات واسعة في صفوف المواطنين بموجب خرق قانون الطوارئ أو تحت طائلة نشر أخبار كاذبة أو زائفة على الإنترنت، والتي أثارت حفيظة الكثير من المنظمات الحقوقية، وفي هذا الصدد رصدت الجمعية المغربية لحقوق الإنسان –على سبيل الذكر لا الحصر– عددًا من حالات الاعتقال، والمتابعات، والمحاكمات على خلفية نشر تدوينة، أو فيديو، أو على موقع فيسبوك،[17] كما أكدت مفوضة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان في هذا الإطار «أن بعض الحكومات تستخدم قوانين الطوارئ –التي فُرضت بسبب أزمة كوفيد-19– لسحق المعارضة والسيطرة على الناس وحتى إطالة فترة بقائها في السلطة». وتعد المغرب إحدى تلك الحكومات بحسب مسئولة أخرى في المفوضية. فبالإضافة إلى اعتقال مئات الأشخاص، بينهم ناشطون، بتهمة «نشر أخبار زائفة» عن كوفيد-19، تلاحق السلطات المغربية نشطاء وصحفيين آخرين، بتهم أخرى. ولعل قضية الصحفي عمر الراضي التي تثير جدلًا واسعًا في المغرب هي أحدث هذه القضايا، فبعد إدانته بتهمة «المس بالقضاء» في مارس الماضي بسبب نشر تغريدة على تويتر ينتقد فيها الأحكام الصادرة بحق نشطاء «حراك الريف»، يخضع الراضي حاليًا للتحقيق بتهمة «الحصول على تمويلات من الخارج لها علاقات بجهات استخبارية»، كما أعلنت النيابة العامة. ويأتي إعلان النيابة العامة بعد يومين من نشر منظمة العفو الدولية تقريرًا يقول أن السلطات المغربية استخدمت البرنامج المعلوماتي «بيغاسوس» التابع للمجموعة الإسرائيلية «إن إس أو»للتكنولوجيا من أجل التجسس على الهاتف المحمول للراضي. على الرغم من أن المغرب أكد على لسان بعثته الدبلوماسية في جنيف أن الإجراءات التي طبقها لاحتواء فيروس كوفيد-19 تتماشي مع «سيادة القانون في احترام كامل لحقوق الإنسان»[18].
في مصر لم يسلم المواطنون والصحافة بمختلف أنواعها من القمع، فعلى سبيل المثال أوقفت السلطات المصرية الناشطة سناء سيف، شقيقة الناشط البارز علاء عبد الفتاح، بتهمة نشر شائعات حول تردي الأوضاع الصحية بالبلاد وتفشي فيروس كوفيد-19 في السجون. وبعد يوم واحد من توقيف سناء سيف، اعتقلت السلطات المصرية الصحفية نورا يونس، رئيسة تحرير موقع «المنصة» الإخباري الذي تم حجبه داخل مصر عدة مرات بتهم «نشر أخبار كاذبة وترويج الشائعات».[19] كما شنّت السلطات المصرية في السابع عشر من مارس حملة لقمع الصحفيين الأجانب الذين نشروا معلومات تفشي الفيروس، ووجهت لهم تهم «التشهير المتعمد المتكرر» و«سوء السلوك المهني»، حيث أنهت الهيئة العامة للاستعلامات أوراق اعتماد مراسلة صحيفة «الجارديان» البريطانية،[20] وأصدرت تحذيرًا لمراسل صحيفة «نيويورك تايمز» لأنه أبلغ عن عدد أكبر من الإصابات التي تم تقديرها رسميًا، فبالإضافة إلى القوانين الصارمة التي تعتمدها مصر، اتخذت الفيروس كذريعة أخرى للهيمنة على المعلومات وقمع حرية التعبير، مما مكنها من القيام بجملة من الاعتقالات تحت طائلة نشر الأخبار الزائفة، والهدف طبعًا تحويل أنظار المواطنين عن إخفاقات النظام في الحكم، وفي طريقة تدبيره للازمة الوبائية في ظل انعدام الشفافية والنزاهة وعزمها على إسكات مختلف أصوات المعارضة.[21]
في الجزائر أيضًا، وعلى الرغم من تعليق الاحتجاجات بشكل مؤقت بسبب فيروس كوفيد-19، تم اللجوء إلى وسائل التواصل الاجتماعي لضمان الاستمرارية في التعبير عن الاحتجاج والمعارضة والنقد، ومن الأمثلة على ذلك بث إذاعة كوفيد-19 الدولية على الإنترنت، التي تبثّ برنامجًا نصف شهري يقيّم النظام السياسي وينتقده. إلا أن النظام السياسي وجد ضالته في تضييق وتشديد الخناق على هذه الفضاءات الافتراضية على غرار تسييج الميادين والشوارع، من خلال توظيف قانون العقوبات المعدّل الذي يتضمّن «تجريم الأخبار الكاذبة» من أجل الحفاظ على «أمن الدولة». وفي هذا الصدد وثّقت منظّمة «هيومن رايتس ووتش» الطرق التي استغّلت فيها الجزائر جائحة فيروس كوفيد-19 المستجدّ لقمع الحراك، فمنذ بداية الجائحة، حكمت المحاكم على أعضاء معروفين من الحراك، مثل كريم طابو وعبد الوهاب فرساوي، بالسجن بتهمة «المساس بسلامة وحدة الوطن». وسُجن الصحافي خالد درارني أيضًا في السابع والعشرين من مارس. وتم توقيف عمل بعض مواقع الويب، واحتُجز بعض الشباب بسبب عمل نشاطي سلمي على الإنترنت. لذا لا شكّ في أنّ السلطات تحاول إسكات الأصوات المعارِضة وإنهاء الحراك، وتقوم بذلك مع الإصرار أيضًا على أنّ «حرّية التعبير والمناخ الديمقراطي» مُتاحان في الجزائر.[22]
في تونس، برزت مخاوف كثيرة من العودة إلى مرحلة ما قبل الثورة، من خلال استحضار سجل تونس بخصوص تعاملها مع حرية الإنترنت ما قبل الثورة وما بعدها، على الرغم من تبوئها مكانة الصدارة من حيث ممارسة حرية الإنترنت مقارنةً بالدول العربية الأخرى، وذلك بسبب استمرارية العمل بتشريعات قمعية وتعسفية منتقدة، وبفعل الإعلان عن حالة الطوارئ، مما جعل مختلف المنظمات الحقوقية في الداخل والخارج تنظر بعين الشك والريبة إلى مختلف الإجراءات الاستثنائية التي قامت بها الحكومة في تدبير أزمة كوفيد-19، خصوصًا لوجود ممارسات سابقة استهدفت حرية التعبير على الإنترنت، وعلى الرغم من المرونة التي أبدتها السلطات التونسية بخصوص حرية الإنترنت في زمن كوفيد-19 مقارنةً مع باقي بلدان شمال أفريقيا محل الدراسة، تبقى القضية الأبرز التي شغلت الرأي العام التونسي ومختلف الهيئات الحقوقية هي قضية المدونة «آمنة الشرقي» التي قرّر القضاء التونسي مطلع مايو ملاحقتها والحكم عليها بالسجن لمدة ستة أشهر بعدما تداولت على الإنترنت نصًا فيه محاكاة ساخرة من القرآن بتهمة «المسّ بالمقدسات والاعتداء على الأخلاق الحميدة والتحريض على العنف»، وكانت منظمة العفو الدولية في نهاية مايو «دعت السلطات التونسية إلى وقف ملاحقة المدوّنة ورأت في ذلك تقويضًا لحرية التعبير في الديمقراطية الناشئة».[23] وقد اعتبر الكثيرون تلك الحادثة تعيد إلى الذاكرة الجمعية التونسية ممارسات السلطوية –وإن كانت بتجسيداتها الرقمية، وتعد تلك القضية بمثابة بالون اختبار حقيقي، ومقياسًا لمدى نضج التجربة التونسية في الانتقال الديمقراطي.
مخاوف تحول المراقبة الرقمية المؤقتة إلى وضع دائم
عقّب الفيلسوف والأكاديمي الإيطالي روكو رونشي بمقال تحت عنوان «فضائل الفيروس»، معتبرًا «أن الإجراءات الطارئة التي تفرضها مقاومة الجائحة تعمل على إضفاء الطابع العالمي على «حالة الاستثناء» التي ورثها الحاضر من «اللاهوت السياسي» في القرن العشرين، مما يؤكد فرضية ميشيل فوكو بأن السلطة السيادية الحديثة هي«سياسة بيولوجية» بتعبير «ميشيل فوكو»، الذي نظر إليها كممارسات وصلاحيات لشبكة السلطة التي تدير الجسد الإنساني والسكان في مجال مشترك بين السلطة والبيولوجيا، وفي زمن الانتشار الشامل للرأسمالية».[24] ويقول «جاك اتاي»أيضًا «إذا فشلت الأنظمة الغربية، فلن نرى فقط قيام أنظمة المراقبة السلطوية التي تستخدم بشكل فعال للغاية تقنيات الذكاء الاصطناعي، ولكن أيضًا أنظمة استبدادية لتوزيع الموارد».[25] وهذه الصورة السريالية والدراماتيكية تتجسد أكثر على مستوى بلدان شمال إفريقيا. حيث يعيش مواطنو هذه الدول في وقت يوحي بأهوال الحياة، وبأن العالم قد انحدر إلى الظلام؛ إذ خلقت أزمة كوفيد-19 كابوسًا بائسًا ومأساة ملحمية غرقت شاشات التلفاز ووسائل الإعلام بصور الخوف، ومظاهر القلق اليومي الحقيقي، وأن الحياة اليومية قد اتخذت حالة الحرب، وأضحت العسكرة سمة أساسية لحصر الوباء وتشير إلى هيمنة القيم الحربية في المجتمع، وبشكل أكثر تحديدًا فهي عبارة عن عملية اجتماعية متناقضة ومتوترة ينظم فيها المجتمع المدني نفسه لإنتاج العنف. إن النخبة الحاكمة في دول شمال إفريقيا تستخدم لغة التخويف والترويع بالشكل الذي يخدم نزعاتها السلطوية المرضية، وبالشكل الذي يخلق الطلب المجتمعي على السلطوية الرقمية، والتي تخدم بدرجة من هم في السلطة، كما أن هذه الحكومات تستخدم أزمة الوباء لتوسيع هجومها على الحريات المدنية، ودحر الحقوق الدستورية، وهندسة القمع، والإجهاز الكلي على المعارضة، وفي ظل اعتماد هذه الاستراتيجية، تتعزز أكثر جينات الانصياع والقبول بممارسات هذه السلطوية الرقمية من طرف فئات عريضة من شعوب المنطقة.
شهدت جائحة كوفيد-19 بداية حقبة جديدة من المراقبة الرقمية وإعادة صياغة حساسيات دول شمال إفريقيا بشأن خصوصية البيانات، وفرضت الحكومات أدوات مراقبة رقمية حديثة لتتبع الأفراد ومراقبتهم، وقد رحب العديد من المواطنين بتكنولوجيا التتبع التي تهدف إلى تعزيز الدفاعات ضد الفيروس التاجي الجديد. ومع ذلك، فإن المدافعين عن الخصوصية كانوا يشعرون بالقلق ونوع من التذمر، من أن الحكومات قد لا تميل إلى إيقاف هذه الممارسات بعد انتهاء حالة الطوارئ الصحية. إن الخوف الرئيسي يكمن بالأساس في استمرار هذه المراقبة الرقمية للمواطنين إلى شكل دائم، أي الخوف من عدم العودة إلى الوضع العادي المعتل بالأساس، وهذه العملية ستئول حتمًا إلى جعل الكثير من إجراءات وتدابير المراقبة الرقمية تستمر إلى ما بعد سياق الأزمة (أزمة فيروس كوفيد-19) الذي برر تأسيسها، فالأنظمة السياسية لدول شمال أفريقيا لن تتخلى بسهولة عن مورد ثمين يمكنها من الحصول على مختلف المعلومات والبيانات الشخصية التي ستوظفها في ممارسة نوع من الضبط الاجتماعي، فهي لن تتوانى في بذل أي مجهود يجعل المواطنين يقبلون هذا الشكل من المراقبة التي اعتادوا عليها ووجدوها مطمئنة، خاصةً وأن هذه المراقبة الرقمية تم تقديمها بفعل الضرورة لحماية الصحة العامة. وأيضًا بفعل نداء الخوف الذي يعتبر موردًا صالحًا وضروريًا في بعض الأحيان للحصول على الاهتمام ودرجة أكبر من الانضباط والطاعة الاجتماعية.
لاشك أن هناك إرادة جماعية في مختلف دول العالم تذهب في اتجاه المساهمة في السيطرة على الوباء بطبيعة الحال ودول شمال إفريقيا انخرطت بدورها في هذا المسعى، ولكن ليس بأي ثمن كما نبهت إلى ذلك خبيرة الأمن السيبراني «سولانج جراونتي»، إذ يَكْمُن خطر استغلال السلطة للأزمة وأولوية الناس للصحة إلى اعتماد أنظمة للمراقبة قد لا يتم إلغاء تثبيتها بعد ذلك، لإنشاء نموذج «دولة الأخ الأكبر» المستوحى من رواية 1984 لجورج أورويل وهي الاستعارة المفضلة للتعبير عن المراقبة الشاملة للمجتمع، حيث يخضع فيها كل شيء تقريبًا للرقابة والمتابعة أكثر من أي وقت مضى، تمامًا على طريقة الاستبداد الصيني. ففي ظل تثبيت هذه المراقبة سيكون المواطن في مواجهة الكثير من التهديدات التي يمكن أن تنتهك بدرجة أولى حماية خصوصيته وبياناته الشخصية، وتمس حريته في التعبير كما أسلفنا الذكر سابقًا، وقد يكون الهدف طبعًا هو تقييد قدرة المواطنين على التعبير عن آرائهم المعارضة مقابل خلق إجماع حول مختلف نظم الحكم، خصوصًا وأن تقنيات هذه المراقبة ستمكن الحكومة من استخدامها لرصد المواطنين من خلال تتبع حركاتهم وعاداتهم وأفكارهم بطريقة مكثفة وغير مقيدة، مما سيساهم إلى حد كبير في ممارسة نوع من الرقابة الذاتية أيضًا.[26]
إن مجرد شعور الأفراد في هذه الدول بأنهم تحت المراقبة المستمرة، سيفرض عليهم نوعًا من الانضباط والامتثال الذاتيين، و يؤكد «ايفجيني موروزوف»، باحث التكنولوجيا، هذا الخوف أيضًا حيث يعتقد أن الوعي بالمراقبة، ولكن دون معرفة كيف ومتى، بإمكانه أن يجعل العديد من النشطاء يفرضون الرقابة على أنفسهم أو يمتنعون عن التعبيرات السلوكية غير المرغوب فيها من طرف السلطة، هذا الوصف للوجود المحتمل لقوة أعلى تراقبك، وعواقب ذلك يجسد جوهر المنظور الأورويلي «الأخ الأكبر يراقبك» أيضًا، ويعمل على استدامته،[27] إذ تثار دائمًا إشكاليات بخصوص تطبيقات حالات الطوارئ وإمكانية امتدادها بعد نهاية الأزمات، وهذا ينطبق على حالة دول شمال إفريقيا التي تزداد فيها نزعات إحكام القبضة السلطوية إلى حد كبير، وهي مخاوف مشروعة ولها مصداقيتها نتيجة تجارب سابقة مع حالات الطوارئ، لا شك أن هذه الاستجابة المثيرة قد تعد بمثابة النهج الصحيح، في حين أنه قد تنجح في تحجيم انتشار الفيروس، إلا أن شعوب المنطقة ستواجه خطرًا آخر، وهو أنه عندما يتراجع الفيروس، ستكون العديد من هذه البلدان أكثر سلطوية بكثير مما كانت عليه قبل أزمة فيروس كوفيد-19.
في أوقات الأزمات، غالبًا ما يتم تجاهل الضوابط والتوازنات باسم السلطة التنفيذية. ويكمن الخطر في تحول هذه الإجراءات المؤقتة (ممارسات السلطوية الرقمية ) إلى ممارسات دائمة، وغالبًا ما تتجاوز الحكومات ما هو مطلوب للصحة العامة، إذ هناك خطر حقيقي يتمثل في أن سلطات المراقبة الرقمية المعززة سوف تتجاوز عمر تفشي الفيروس التاجي وتستخدم لأغراض غير مشروعة. وفي هذا السياق يرى «بيبر» وهو مؤلف كتاب «مناقشة القومية.. الانتشار العالمي للأمم» أن «الإجراءات الحالية قد تنجح في التخفيف من انتشار الفيروس وتفشي الجائحة، لكن العالم سيواجه خطرًا من نوع آخر، إذ ستكون العديد من البلدان أقل ديمقراطية بكثير مما كانت عليه قبل مارس من العام الجاري، حتى بعدما يتراجع خطر الفيروس، وأن الضوابط والتوازنات –غالبا– يتم تجاهلها من قبل السلطات التنفيذية في أوقات الأزمات، لكن الخطورة تكمن في أن تتحول هذه الإجراءات الاستثنائية المؤقتة إلى دائمة».[28] ويذهب «اغامبين» الفيلسوف الإيطالي والمنظّر القانوني بكتابه «حالة الاستثناء.. الإنسان الحرام»، في السياق نفسه حيث «يعتبر أن السلطات تستخدم الظروف الاستثنائية لتبرير تعطيل القانون، وحيازة السلطة المطلقة، مشيرًا إلى تحولها لحالة دائمة حتى في النظم الدستورية الديمقراطية». كما يؤكد «تشيزمان»: «خلال الأزمات، تزداد قوة الحكومة المركزية بشكل عام. ولكن، عندما تنتهي الأزمة، لا يتم إعادة تلك السلطة دائمًا إلى الجمهور والمستويات الدنيا من مستويات الحكومة».[29]
ومما يعزز أيضًا من رجحان هذا التوجه السلطوي الرقمي بعد الأزمة هو أن التحدي هنا هو رؤية الكثير من الناس يقولون أن الاستبداد الرقمي ينجح في هذه الحالات، خصوصًا عندما يكون من الواضح أن الاستبداد هو الذي يصنع الفرق، كما أن تثمين ممارسات السلطوية الرقمية وتحبيذها خلال مواجهة أزمة فيروس كوفيد-19 قد لا يجعل دول شمال إفريقيا تتخلى بسهولة عن إجراءاتها السلطوية والقمعية بعد نهاية الأزمة. كما أنه يجعل أزمة الفيروس التاجي أكثر خطورة على الديمقراطية، وتساهم في إذكاء روح السلطوية، خصوصًا إذا اعتقد الناس أن الطريقة الوحيدة لمحاربة المرض هي نهج السلطوية ومركزية الحكم وتعطيل مختلف مؤسسات الدولة مع اعتماد مراقبة رقمية شاملة. هذه المخاوف تصبح حادة بشكل خاص في البلدان التي تبصم على حالة أكيدة من «الثبات السلطوي»، حيث يتجسد عمليًا الابتعاد عن النظام السياسي الديمقراطي والتوجه أكثر نحو تعميق الممارسات السلطوية. في هذه البلدان، يراكم القادة مبدئيًا المزيد والمزيد من السلطة، ويزيلون مختلف الضوابط المعيارية والقانونية التي تحد من سلطتهم ويقوضون المعارضة، وفي أسوأ الحالات، يصبح من المستحيل إزالتها بعد ذلك حتى بالوسائل الانتخابية والمقتضيات الدستورية والقانونية، وحتى المواطن العادي يتكيف مع هذا الوضع السلطوي ويساهم في تثبيته وتعزيزه.
خاتمة
مع الانتشار المتزايد لتقنيات الاتصال الحديثة، اتخذ تأثير السلطوية الرقمية أشكالًا جديدة، كما أن للرقابة والسيطرة على الإنترنت تأثير متسلسل على مجال حقوق الإنسان إلى حد كبير ومتعاظم، لقد نجحت الحكومات في الأنظمة السلطوية لبلدان شمال إفريقيا بشكل ملحوظ في التكيف مع المخاطر المتصورة التي تشكلها الإنترنت على سلطتها السياسية. فبينما تروج أنظمتها لاستخدامها لصالح النمو الاقتصادي والتنمية في مختلف المجالات، فقد قامت أيضًا بتحويل الإنترنت إلى أداة للتحكم في الاستقرار السياسي والحفاظ عليه، مما أفضى إلى زيادة الاعتقالات المتصلة بالإنترنت، وأضحى الاستبداد الرقمي له اليد العليا في الوقت الحالي على التحرير الرقمي.
إن أزمة فيروس كوفيد-19 عملت دون شك على تسريع استخدام حكومات دول شمال أفريقيا لتقنيات المراقبة الجديدة، وقد يظهر أن هدفها المعلن من استخدام هذه التطبيقات هو تعقب المواطنين الذين ربما تعرضوا للفيروس، وأن هذه المراقبة المعززة ليست في حد ذاتها معادية للديمقراطية أو تتعارض مع حماية الخصوصية والبيانات الشخصية، إلا أن مخاطر الانتهاكات السياسية لهذه التدابير الجديدة كبيرة في ظل بيئات سلطوية محضة، خاصةً إذا كانت مرخصة ونُفذت بدون شفافية أو رقابة، كما أن حكومات دول شمال أفريقيا التي تمنع النقد أو تختار عدم الشفافية يمكن أن تحمي بشكل فعال موقفها السياسي على حساب الصحة والسلامة العامة.
إن الديمقراطية الحقيقية تتطلب أن تقطع دول شمال أفريقيا مع هذه السلطوية الرقمية المقيتة، وأن تكرس بالمقابل فضاءً سيبرانيًا محميًا، مانع ونابذ لأي انتهاك يتعلق بالبيانات الشخصية وقضايا الخصوصية، وضمان الحق في الوصول إلى الإنترنت والمعلومات، وحرية التعبير، والتي بدونها لا يمكن الحفاظ على الأمن والازدهار والحرية –ثمار الحكم الديمقراطي– أو التمتع بها. ستحتاج دول شمال أفريقيا حتمًا إلى تطوير نموذج ديمقراطي للحكم الرقمي. للقيام بذلك، سيحتاج قطاع التكنولوجيا وصنع السياسات والقوانين إلى تقديم نماذج مقنعة للمراقبة الرقمية التي توازن بين الحاجة إلى الأمن مع الاستمرار في حماية الحريات المدنية وحقوق الإنسان، والانتصار لفكرة الإنترنت كمجال عام افتراضي يمكن أن يعزز الشفافية ويحقق المساءلة ويشكل علاقة أفضل بين الحكومة والمواطن، وخلق بيئة افتراضية لامركزية، وخلق شكل «أنقى» للديمقراطية حيث يتم سماع صوت الجميع وتكريس معطى الوصول إلى المعلومات ومشاركتها بحرية.
إن الانفتاح على الديمقراطية الرقمية في بلدان شمال أفريقيا سيخلق بلا شك مجتمعًا حيويًا ونشطًا عبر الإنترنت، وهذه الزيادة الهائلة في شعبية الاتصال المباشر عبر الإنترنت، لا سيما من خلال المنتديات عبر الإنترنت، ستخلق فضاءات للتعبير عن المعارضة والتعبير عن الآراء لجمهور عريض. وتساعد في تقديم آراء «انتقادية» أكثر صراحة للحكومة والشركات والشخصيات العامة، كما ستلعب الإنترنت دورًا ملحوظًا في تنويع النقاش العام، وتفتح طرقًا جديدة للمواطنين لتجاوز وسائل الإعلام التقليدية، التي غالبًا ما تكون خاضعة لسيطرة أنظمة هذه الدول وتنقل وجهة نظرها الرسمية فقط.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.