''جلاد مصر''
أنزل بهذا الشعب كل هوان = و أعد عهود الرق للأذهان
و اقتل به ما استطعت كل كرامة = و افرض عليه شريعة القرصان
أطلق زبانية الجحيم عليه = من بوليسك الحربي و الأعوان
و اصنع به ما شئت غير محاسب = فالقيد لم يخلق لغير جبان
يا باعث الوادي أما من جنة = للمتقين بجانب النيران ؟
هدمت صرح فساده لكن على = حرية الأرواح و الأبدان !
ما بين محكمة تقام و أختها = مني الضمير بغفوة النعسان
الشعب يلعنها و تقرن باسمه = أرأيت كيف تبجح البهتان ؟
فيها القضاة هم الخصوم و إنها = لعدالة مختلة الميزان
هبني خدعت بكل ما زيفته = عن سادة الأحزاب و الإخوان
هل خان قائدنا نجيب عهدنا = أم راح نهب الحقدِ و الأضغان ؟
لم يرض بالحكم انفرادا غادرا = بعد العهود و بيعة الرضوان
أو كل شهم لا يطيق خداعكم = أضحى لديكم خائن الأوطان ؟
إن الشهيد قتيلكم و طريد كم = حر و ليس سجينكم بمدان
كفلوا لكل مواطن حرية = في الرأي إن أثنى على الطغيان
من ذا الذي يخشى الكلام و هاهموا = قد أطلقوا للزور كل لسان
هذي الصحافة حرة أقلامها = في جوف أربعة من الجدران
لم تخش بأس رقابة من بعد أن = ألقوا بها في ظلمة القضبان
أما الإذاعة فهي بوق دعاية = عادت بداء الوقر للآذان
ملئت بكل مخدر و مضلل = من مائع الأخبار و الألحان
زعموه عهد تقدم نحو العلا = جعل المواطن صاحب السلطان
فعجبت كيف يريد مجد بلاده = من راح يطبعها على الخذلان
جلبوا الشقاء لنا فأي نقيصة = لم تنتشر فينا بكل مكان
وصفوا الدواء لرشوة مذمومة = فإذا بها أنكى من السرطان
و تظاهروا بفناء محسوبية = و شيوعها ما احتاج للبرهان
و دعوه عهد تحرر من قيدنا = لبسوا مسوحا فيه للرهبان
فرأيت شعبا مستذلا صاغرا = نحو السجون يساق كالقطعان
يستعمل الأشرار في تعذيبه = ما فاق كل وسائل الشيطان
الرفق بالحيوان أصبح واجبا = أفلا ننال الرفق بالإنسان ؟!
قالوا: القضاء على الفوارق بيننا = و إزالة الألقاب مقترنان
أي الثمار أصاب بعد زوالها = من بات يجرع سابق الحرمان
قد أبدل الباشا القديم بسيد = و الشعب بينهما المريض العاني
كم جائع قد خاف جلادا له = فأسر بالشكوى إلى عريان
و معذب سمع الدجى أناته = متعللا بالصبر و الإيمان
ما رد جوعا أو كسا عُرْيَانَنا = تحديدهم ملكية الأطيان
المال قد أفنوه كي يتظاهروا = بتتابع التشييد و العمران
ماذا أفاد النيل من كورنيشه = إن كان يشكو ذلة و يعاني
إن السجين إذا ارتدى من سندس = في القيد لا يرتاح للسجان
شغل الكماه الغر كل وظيفة =وتسلموا في النيل كل عنان
وتربعوا في دست كل وزارة = لم يتركوا للكفء أي مكان
حتى كأن بمصر كل كفاءة = قصرت على أبطالها الفرسان
و أرى العدو ببابنا متربصا = و يكاد أن ينقض كالعقبان
كم شن عند حدودنا من غارة = قد قوبلت بالصفح و الغفران
و الجيش مشغول بإذلال الحمى = هل خوض معركتين بالإمكان ؟
يكفيه عرض الجند في حفلاته = و الكشف عمن فيه من شجعان
لن ندرك النصر المراد إذا التقى = بوما بإسرائيل في ميدان
أتريد من جيش هزيل قاده = غَرُ دفاعاً ساعة العدوان ؟
جلاد مصر ويا كبير بغاتها = مهلا فأيام الخلاص دواني
من أي غاب قد أتيت بشرعة = ما إن يساس بها سوى الحيوان
و بأي قانون حكمت فلم تدع = شيئا لطاغية مدى الأزمان
أبرأيكم ؟ و الله يشهد أنه = فيه الهوى و الغي يلتقيان
أم ذاك رأي الشعب و هو مكبل = فحياته و الموت يستويان
قد بات مثل الزوج مخدوعا متى = يعلم فبعد تحدث الجيران
لو كان عهدك قبل عهد محمد = للعنت يا فرعون في القرآن
في ظل فترة الانتقال بنا إلى = دار البقاء و رحمة الديان
هجرا لقضاء الحرِ مجلس دولةٍ = قد نام ملء العين و الأجفان
و أُضيع دستور البلاد و حقها = في برلمان ثابت الأركان
نيرون لو قيست بكم أفعاله = سيكون رب الخير و الإحسان
يا رب مغلوب ينام على الأذى = لكن بمقلة ساهر يقظان
لا يغرينكموا بضرب رقابنا = هذا السكون فإنه لأوان
و من العواصف ما يكون هبوبها = بعد الهدوء و راحة الربان
إن احتدام النار في جوف الثرى = أمر يثير حفيظة البركان
و تتابع القطرات ينزل بعده = سيل يليه تدفق الطوفان
كم من قوي ظالم قد ناله = من شعبه ما ليس في الحسبان
فتشت لم أر مستبدا ناجيا = دمع الضحايا فاحش الأثمان
عرف الشيشكلي قبلكم في سوريا = ماذا وراء الصمت و الإذعان
فاروق لم يكن الخيال يراه في = يوم الخروج يجر في الأحزان
ما كان فينا حالم بنزوله = عن عرشه في لحظة و ثوان
لكنه ظلم الطغاة شعوبها = جعل الحياة تدب في الجثمان.
هاشم الرفاعي
كتبها في مارس 1955 بعنوان
''جلاد الكنانة''
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.