الأربعاء، 28 أغسطس 2024

العلاقات بين المؤسسة العسكرية وقطاع الأعمال في الرأسمالية القسرية في مصر

 

الرابط

مؤسسة كارنيجي  ..  منظمة غير حكومية وغير ربحية .. واشنطن العاصمة

العلاقات بين المؤسسة العسكرية وقطاع الأعمال في الرأسمالية القسرية في مصر


تُعدّ المؤسسة العسكرية المصرية الركيزة الأساسية للنظام السياسي في البلاد منذ أن أطاحت القوات المسلّحة بالنظام الملكي وأنشأت الجمهورية الحديثة في 1952-1953. ولكن نادرًا ما حكم الجيش باسمه أو فرض هيمنته على طبقة الأعمال المُمسِكة برأس المال. بدلًا من ذلك، حكمت الإدارات الرئاسية المتعاقبة، وإن كان على رأسها ضباط من القوات المسلحة، اقتصادَ البلاد على مدى واحد وسبعين عامًا من السنوات الاثنتين والسبعين الماضية. وقد هندست هذه الإدارات إلى حدٍّ كبير سياساتٍ تعطي الأولوية إلى حاجاتها السياسية والاقتصادية على حساب حاجات القطاع الخاص. ولكن في العقد المنصرم، لم تتبع العلاقات بين المؤسسة العسكرية وقطاع الأعمال منحنى تطوريًّا مطّردًا مماثلًا. تاريخيًّا، كانت العلاقة في الغالب ذات منفعة متبادلة، وطفيلية مرارًا، حتى في ظل تعدّي القوات المسلّحة على ميدان التجارة المدنية وإنشائها جيبها الاقتصادي الخاص. ولكن منذ الانقلاب العسكري في العام 2013 وتسلُّم عبد الفتاح السيسي سدّة الرئاسة، دفعت عملية إعادة التشكيل العميقة للسلطة السياسية وأنماط تكوين رأس المال – إلى جانب التوسع الكبير للاقتصاد العسكري – بالعلاقات بين المؤسسة العسكرية وقطاع الأعمال إلى الواجهة بطرق إشكاليّة في الكثير من الأحيان.

تشكّل المؤسسة العسكرية رأس الحربة لاستراتيجية السيسي الاستثمارية الطموحة التي تقودها الدولة، ونتيجةً لذلك فهي تنخرط في الإدارة الاستراتيجية للاقتصاد. وقد أدّت الأزمة التي ضربت المالية العامة والاقتصاد في مصر، بسبب جائحة فيروس كورونا والسنوات الأولى من الحرب في أوكرانيا، إلى تسريع وتيرة هذا التحوّل. فجنرالات القوات المسلحة الذين يرأسون هيئات عسكرية نشطة اقتصاديًّا باتوا الآن أعضاء في لجان وضع السياسات في عددٍ من القطاعات المهمة (مثل تكنولوجيات الثورة الصناعية الرابعة، والتنمية الصناعية)؛ ويوجّهون المشتريات الحكومية لسلع محدّدة؛ ويديرون برامج الرعاية الاجتماعية؛ ويؤثّرون في كيفية تعامل الحكومة مع الديون الخارجية، والاستثمارات الأجنبية والمحلية، والمدّخرات. وينضمّ قادة القوات المسلحة روتينيًّا إلى الرئيس في الاجتماعات المتعلقة بالاقتصاد والاستثمارات الاستراتيجية للدولة. لقد أدّى هذا الانخراط المتزايد إلى نشوء علاقة بين المؤسسة العسكرية وقطاع الأعمال ينتج عنها منح سيلٍ من عقود المشتريات العامة التي تديرها المؤسسة العسكرية إلى جهات محظيّة في القطاع الخاص، ولكنه ربطَ أيضًا هذه الجهات على نحو أوثق بالنظام الحاكم، ما زاد من تقييد استقلالية القطاع الخاص ككل وثنيه عن الاستثمار في الاقتصاد.

لكن الجهود التي تبذلها المؤسسة العسكرية للاحتفاظ بالتفوّق السياسي بصورة دائمة، لا ممارساتها الاقتصادية الافتراسية حصرًا، هي التي تحدّد علاقاتها مع القطاع الخاص. لذا وعلى الرغم من أن العلاقة بين المؤسسة العسكرية وقطاع الأعمال عميقة التجذّر ومجزية في الغالب لكلا الطرَفين، فهي لم تؤدِّ قطعًا إلى ظهور تحالف طبقي صريح، أي ائتلاف اجتماعي واضح المعالم ذي مصالح مشتركة. قد يبدو أن في الأمر مفارقة. فالجهود التي تبذلها إدارة السيسي لإعادة بناء اقتصاد تقوده الدولة، وإن لم يكن بالضرورة مملوكًا منها، تولّد شكلًا هجينًا من مركزية الدولة والنيوليبرالية يمكن وصفه بـ"الرأسمالية القسرية". ويكمن تفسير ذلك في ما تتمتّع به المؤسسة العسكرية من استقلالية عن أي تحالف اجتماعي مُحدَّد المعالم وعن مؤسسات الدولة الأخرى، بل واستقلاليتها حتى عن الرئاسة، إثر التعديل البالغ الأهمية الذي أُدخِل على نصّ الدستور المعدّل للعام 2019. قد لا يعارض الرأسماليون المصريون المدنيون من جهتهم الرأسمالية القسرية، إلا أنهم لا يضطلعون بأيّ دور في تصميمها ولا في توجيهها. 

كشفت الأزمة المالية والاقتصادية الحادّة للعام 2022 أن الرأسمالية القسرية المصرية في خطر حتى فيما لا تزال تتبلور معالمها. ردًّا على ذلك، قد تعمَد القوات المسلحة، التي توشك على تولّي مكانة مهيمنة في الاقتصاد القومي، إلى الاستحواذ على مزيدٍ من تدفّقات الإيرادات والفرص الاقتصادية المتناقصة، مع ما ينطوي عليه ذلك من خطر إضعاف القطاع الخاص واستبعاده بشكلٍ متزايد. أو أنها قد تدرك، في نهاية المطاف، فوائد الاصطفاف بشكل لا لبس فيه مع كبار رجال الأعمال، ما يضع حدًّا للتهميش المستمر الذي يتعرّضون له منذ عقود ويحوّلهم من زبائن محسوبين إلى شريحة أوليغارشية قائمة في ذاتها. ومع ذلك، لا يحمل أيٌّ من النتيجتَين بوادر ظهور ائتلاف اجتماعي سياسي من أجل الدمقرطة.

تطوّر العلاقات بين المؤسسة العسكرية وقطاع الأعمال ضمن الرأسمالية المتصدّعة في مصر

تشهد العلاقات بين المؤسسة العسكرية وقطاع الأعمال في مصر تغيّرًا تحوّليًّا منذ العام 2013. فقد أصبحت العلاقة بالنسبة إلى الطرفَين أكثر عمقًا وأهمّية، إنما بطرق تُلحق الضرر بالقطاع الخاص. خلال العقود الأربعة السابقة، تطوّر الاقتصاد العسكري والقطاع الخاص في مسارات منفصلة إلى حدٍّ كبير. وأفضل تفسير لذلك هو ظهور ما أسماه أستاذ الاقتصاد السياسي عمرو عدلي "الرأسمالية المتصدّعة" بعد العام 1974، وهي عبارة عن نظام ريعي يتّصف بضعف تكامل الأسواق فيه، وتسيطر عليه "جهات فاعلة بيروقراطية تابعة للدولة استخدمت بشكل مباشر رأس المال المالي والمادّي... وسلطة الدولة في المضمار الاقتصادي، وإن لم يحصل ذلك دائمًا بطريقة منسجمة أو متماسكة أو منسّقة"، ما أدّى بدوره إلى الإبقاء على "المنظمات والمؤسسات المركزية والهرمية والسلطوية التي رفعت تكلفة وصول أكثرية الجهات الفاعلة في الأسواق إلى التمويل والأراضي". فمصر هي اقتصاد مجزّأ "تكافح فيه الشركات الصغيرة والمتوسطة من أجل البقاء، وتفتقد فيه إلى أي تطلّع للتوسّع عن طريق بيع منتجاتها وخدماتها لشركات أكبر"، على حدّ تعبير أستاذ العلوم السياسية روبرت سبرينغبورغ.

ربما لم تكن العلاقات بين المؤسسة العسكرية وقطاع الأعمال في مصر متكافئة على الإطلاق في أعقاب التأميم الشامل في العام 1961، والذي أدّى، إضافةً إلى ما سبقه من نزع ملكية كبار مالكي الأراضي في الخمسينيات، إلى القضاء على ما تمتّعت به الطبقة الرأسمالية من قوّة سياسية. ولكن ظهرت علاقات أكثر تكافؤًا بين المؤسسة العسكرية وقطاع الأعمال بعد العام 1974، حين أطلق الرئيس أنور السادات آنذاك سياسة الانفتاح الاقتصادي، أي التحرير المحدود للتجارة، وتراجعَ جزئيًّا عن إصلاح الأراضي وما يُسمّى بالمراسيم الاشتراكية للعام 1961. في موازاة ذلك، أنشأ السادات بعض أهم الهيئات الاقتصادية التابعة للجيش، وأعاد إحياء الصناعة الدفاعية بعدما ظلّت هامدة إلى حدٍّ كبير منذ العام 1958، وأرسى الأسس القانونية لقيام القوات المسلحة لاحقًا بالوصاية الرسمية على الأراضي والبنية التحتية التابعة للدولة، وحقوق الانتفاع منها. وقد اتّسع الحيّز الاقتصادي للقطاع الخاص إلى حدٍّ كبير بعد الخصخصة الجزئية للمؤسسات المملوكة للدولة في العام 1991. ولكن اتّسع أيضًا، في الموازاة، النشاط الاقتصادي العسكري، وساعده في ذلك جزئيًّا تسجيل بعض الشركات العسكرية على أنها مؤسسات تابعة للقطاع العام. وأدّى تمدّد "جمهورية الضباط"، أي الآلاف من كبار متقاعدي القوات المسلحة الذين حصلوا على وظائف مضمونة في الوزارات المركزية والهيئات الاقتصادية العامة، وفي الإدارات المحلية والشركات المملوكة للدولة التي أُضفي عليها حديثًا الطابع التجاري، إلى زيادة كبيرة أيضًا في التفاعلات غير الرسمية بين المؤسسة العسكرية وقطاع الأعمال. وفد تجلّى ذلك بصورة خاصة في الطلبات التي تقدّم بها القطاع الخاص لاستخدام أراضي الدولة لأغراض سكنية وتجارية، وكان ترخيص هذا الاستخدام منوطًا بوزارة الدفاع بموجب سلسلة من المراسيم الرئاسية التي صدرت بين العامَين 1981 و2001.

بدا أن الانتقال الاقتصادي الذي شهدته مصر بعد العام 1991 مهّد الطريق نحو رأسمالية قائمة على وساطة الدولة، بحيث أنتج تفكيك الاقتصاد الاشتراكي علاقة تكافلية جديدة بين المسؤولين في الدولة والرأسماليين الزبائنيين.7 ففي إطار نأي إدارة السيسي عن حقبة رجال الأعمال المحسوبين على الرئيس الأسبق حسني مبارك، كان بإمكانها أن تسمح لأوليغارشيين أكثر استقلاليةً بالتأثير في صياغة السياسة الاقتصادية والاستراتيجية الاستثمارية. ولكن بدلًا من ذلك، فإن الجهود التي بذلها السيسي لإخضاع رأس المال الخاص لاستراتيجيته الاستثمارية التي تقودها الدولة كثّفت عملية استبعاد جميع الجهات الاقتصادية الفاعلة في ما خلا تلك الأكثر حظوةً، من الوصول إلى رأس المال والعملة الأجنبية، ما تسبّب بتجذّر الرأسمالية المتصدّعة. ولكن إرث المرحلة التكوينية من العام 1975 إلى العام 2010 لا يزال يطبع الاقتصاد السياسي المصري، وبالتالي العلاقات بين المؤسسة العسكرية وقطاع الأعمال، في ثلاثة جوانب أساسية.

أولًا، تعلّم كلٌّ من القطاع الخاص والمؤسسة العسكرية – والرؤساء الذين خرجوا من صفوف القوات المسلّحة – التطلّع حصرًا إلى الدولة لتوليد رأس المال (بما في ذلك من خلال الاقتراض) وإعادة توزيعه (بما في ذلك من خلال عقود المشتريات العامة للسلع والخدمات). ومنذ العام 1991 على وجه الخصوص، اتّبع كلٌّ من الجيش والقطاع الخاص بصورة عامة نهجًا استخراجيًّا، من خلال الاستفادة من الدور المهيمن الذي تضطلع به الدولة في تحديد السوق للاستحواذ على العقود وغيرها من مصادر الإيرادات، ومن ثم ترسيخ اقتصاد سياسي يعتمد بشكل كاسح على الريع. ولكن منذ العام 2013، مالت كفّة ميزان الاستخراج بشكل حاسم بعيدًا عن القطاع الخاص لصالح المؤسسة العسكرية، فاضطُرّ القطاع الخاص إلى التعويل بصورة متزايدة على المشاريع ذات الرساميل الكثيفة التي تديرها المؤسسة العسكرية من أجل الحصول على حصّته. يساعد النهج الاستخراجي في تفسير إقبال الجيش على إدارة مشاريع ضخمة ذات رساميل كثيفة، ما أدّى إلى زيادة بنسبة 400 في المئة في الديون السيادية المصرية منذ العام 2014، والتي بلغت 95.5 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في آذار/مارس 2023.

ثانيًا، ونتيجةً لما تقدّم، فإن الإصلاحات والمقاربات الاقتصادية من النوع الذي يفضّله عمومًا شركاء مصر الغربيون، مثل الشراكات بين القطاعَين العام والخاص، يُنظَر إليها عادةً بأنها وسائل إضافية للاستحواذ على الريع، لا كمساراتٍ لتغيير نموذج الاقتصاد السياسي. فالتواطؤ بين المؤسسة العسكرية وقطاع الأعمال، لا المنافسة أو الصراع، هو القاعدة أكثر منه الاستثناء، حتى قبل استيلاء الجيش على السلطة في العام 2013. ويكتسي هذا الإرث من التكافل أهمية خاصّة في ضوء وثيقة سياسة ملكية الدولة التي أصدرتها الحكومة في العام 2022، والتي تشدّد على تعزيز الشراكات بين القطاعَين العام والخاص باعتبارها، ظاهريًّا، وسيلة للإصلاح الهيكلي، ولكنها في الواقع وسيلة للاستحواذ على رأس المال الخاص لإعادة رسملة الشركات والأصول المملوكة للدولة وتمويل المشاريع. ولكن التواطؤ حدث في ظروف كان لها تأثير سلبيّ على القطاع الخاص. والدليل على ذلك انكماش أنشطة القطاع الخاص غير المنتج للنفط طوال ستة وثمانين شهرًا من أصل مئة شهر بين كانون الثاني/يناير 2016 ونيسان/أبريل 2024؛ وفي موازاة ذلك، تراجعت حصّة القطاع الخاص من الاقتراض من 42 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي إلى 27 في المئة بين 2008 و2020.

ثالثًا، كشفَ التباس العلاقات بين المؤسسة العسكرية وقطاع الأعمال سطحيّةَ الخط الفاصل بين ما يُسمّى بالقطاعَين العام والخاص، بحسب ما أوردته باحثة الاقتصاد السياسي سارة سميرتشياك. وهذا أيضًا هو من التركة التي خلّفها نقل شركات القطاع الخاصّ (من دون مالكيها من العائلات، المحرومين من حقوقهم) بالجملة إلى الملكية العامة في العام 1961. لذلك لم يكن السؤال الأساسي كلما جرى الشروع في سياسات اقتصادية جديدة في العقود اللاحقة، عن استثناء هذا القطاع أو ذاك من الاستفادة، بل عن القطاع الذي هو في أفضل وضع لتحقيق أكبر قدر من الفوائد في أي وقت من الأوقات. ومنذ العام 2013، احتلّ الجيش الموقع الأفضل بلا منازع في هذا الصدد، وباتت العلاقات بين المؤسسة العسكرية وقطاع الأعمال ذات أهمية أساسية بعدما كانت أهميتها ثانوية في الاقتصاد السياسي المصري. وأصبحت حاجات القطاع الخاص مُلحقة بحاجات النظام الحاكم، ما جعل الفرص التجارية المتاحة لهذا القطاع مرهونةً أكثر من أي وقت مضى بقبول القيود المفروضة على وصوله إلى رأس المال، وفاقم عجزه السياسي. 

إعادة تشكيل الزبائنية

تمثّلت إحدى أبرز نتائج التغيّر التحوّلي في العلاقات بين المؤسسة العسكرية وقطاع الأعمال الخاص خلال عهد السيسي في إعادة ترتيب الروابط السياسية، التي تتمكّن الأعمال الخاصة من خلالها من الوصول إلى ما يسمّيه الخبراء الاقتصاديون إسحاق ديوان وفيليب كيفر ومارك شيفباور بـ"آليات الامتياز"، وهي: الحماية التجارية، والطاقة المدعومة، والوصول إلى أراضي الدولة، وإنفاذ تنظيمات مؤاتية، والحصول بشكل أفضل على التمويل، والمزايا الضريبية، والوصول التفضيلي إلى العقود الحكومية، ووضع متطلّبات أسهل للحصول على التراخيص. وبعدما تمحورت العلاقات السياسية حول المستفيدين من التحرير المحدود للتجارة الذي أطلقه السادات في العام 1974 (ما يُسمّى بِـ"برجوازية الانفتاح") ثم حول أرباب الحزب الوطني الديمقراطي الحاكم آنذاك وأزلامه من رجال الأعمال المتحالفين معه في العقد الأخير من حكم مبارك، باتت تتمحور الآن حول الجيش بشكل واضح لا لبس فيه. إذًا على الرغم من أن مجلس الوزراء لا يزال رسميًّا الواجهة الرئيسة بين الدولة المصرية والقطاع الخاص المحلي، فإن المؤسسة العسكرية هي، في الممارسة العملية، الوسيط الأساسي لعلاقة السيسي مع القطاع الخاص. وهذا يعني أن القطاع الخاص هو الآن رهنٌ بالسيسي وأعوانه العسكريين أكثر ممّا كان عليه في عهد مبارك الذي دام ثلاثين عامًا، فاستقلاليته في السوق – وأي طموحات سياسية ناشئة لديه – مقيّدة اليوم أكثر من أي وقت مضى منذ إطلاق الخصخصة في العام 1991. 

في عهد مبارك، انبثقت الزبائنية من الرئاسة من خلال كبار ممثّلي ونوّاب الحزب الوطني الديمقراطي الحاكم آنذاك، والكثير منهم رجال أعمال محسوبين على النظام. ومنذ مطلع العقد الحادي والعشرين، تركّزت الزبائنية على رجال أعمال محسوبين ومناصرين نيوليبراليين تجمّعوا حول جمال، نجل مبارك، الذي كان رئيسًا للجنة السياسات النافذة في الحزب. كانت المحسوبيات العسكرية المباشرة محدودة. وكانت الشركات المدنية ذات الارتباطات السياسية تستفيد كلما تقاطعت مصالحها وأنشطتها مع مصالح المؤسسة العسكرية وأنشطتها، ولكنها لم تتأثّر في الغالب بالأنشطة التجارية للجيش، التي ظلّت محصورة نسبيًّا في جيب اقتصادي شبه منعزل إلى حدٍّ كبير حتى العام 2013. وخشيت المؤسسة العسكرية، من جهتها، من أن يؤدّي تجدّد حملة الخصخصة في المرحلة الممتدّة من 2004 إلى 2009 إلى تقويض النظام الاجتماعي والاستقرار السياسي، ونظرَت إلى جمال مبارك وشركائه في قطاع الأعمال على أنهم منافسون سياسيون محتملون لا حلفاء. نتيجةً لذلك، وفيما منعت المؤسسة العسكرية الإنعاشَ الاقتصادي وإعادة التأهيل السياسي لرجال الأعمال المحسوبين على النظام بعد إطاحة مبارك في العام 2011، فإنها أبقت أيضًا على مسافة بينها وبين كبار رجال الأعمال المستقلين الذين يمتلكون القدرة على الظهور في موقع الأوليغارشيين الاقتصاديين – وبالتالي في موقع الشركاء السياسيين، إن لم يكونوا أندادًا على قدم مساواة.

شكّل انقلاب العام 2013 تحوّلًا جذريًّا، إذ وضع المؤسسة العسكرية على مسار اقتصادي توسّعي أعاد بطبيعة الحال تشكيل شبكات المحسوبية في الاقتصاد وبيروقراطية الدولة وتوجيهها حول الجيش. والحال هو أن المؤسسة العسكرية أصبحت، إذا صحّ التعبير، حاضرة في كل مكان إلى درجة لم يُشهد لها مثيل منذ ظهور ما أسماه باحث الاجتماع السياسي أنور عبد الملك "المجتمع العسكري" في مصر. وقدّمت الحكومة الانتقالية التي عيّنتها القوات المسلحة في العام 2013، والتي لم تعمّر طويلًا، مؤشّرًا على التوجّه الجديد من خلال منح الجيش على الفور عقود أشغال عامة ضخمة بقيمة تزيد عن 7 مليارات جنيه مصري (مليار دولار أميركي آنذاك).8 وهذه كانت محاولة لتحفيز الانتعاش الاقتصادي في أعقاب الأزمة الاقتصادية والمالية الحادّة التي شهدتها الفترة الانتقالية بين العامَين 2011 و2013 وللإيحاء للجمهورَين المحلي والأجنبي بأن النظام الجديد "منفتحٌ على الأعمال".

علاوةً على ذلك، مُنحت جميع هذه العقود الأوّلية إلى الجيش من دون مناقصات ولا منافسة. ثم حصلت المؤسسة العسكرية على سلطة تقديرية واستنسابية كاملة في اختيار متعاقدين من الباطن من القطاع الخاص لتنفيذ المشاريع الكبرى التي كانت تديرها نيابةً عن الحكومة. إلى جانب السيطرة على ترخيص استخدام أراضي الدولة والسلطات التقديرية الأخرى (مثل التلاعب غير الرسمي بالحواجز غير الجمركية أمام التجارة والتخليص الجمركي)، شكّلت القدرة على منح أو حجب العقود مفتاحًا أساسيًّا لبناء الزبائنية العسكرية. ويتّضح نطاق ذلك وحجمه في حقيقة أن الهيئات العسكرية تولّت إدارة نحو ربع مشاريع البنى التحتية والمشاريع السكنية المموّلة من الحكومة خلال الفترة الممتدّة من 2013 إلى 2018، وأُبقي على هذه الحصة، إن لم تكن قد ازدادت منذ ذلك الوقت. 

لكن استخدام المؤسسة العسكرية لسلطاتها التقديرية كشف أيضًا عن أنماط متغيّرة في العلاقات بينها وبين قطاع الأعمال. فعلى مدى سنوات عدّة بعد العام 2013، فضّلت المؤسسة العسكرية بشكل واضح الشركات الصغيرة والمتوسطة عند منح عقود من الباطن لتنفيذ الأشغال العامة. وبصورة عامة، سعى الجيش على ما يبدو إلى الحصول على دعم الطبقة الوسطى لإدارة السيسي. ولكنّ تدقيقًا عن كثب يكشف أن الكثير من المتعاقدين من الباطن الذين وقع الاختيار عليهم كانوا قد عملوا سابقًا لحساب الجيش، وأن بعض الشركات كانت عبارة عن واجهات أو شركات صورية (تفتقر إلى المهارات والقدرات ذات الصلة) ربما أنشأها ضباط من القوات المسلحة للاستحواذ على عقود يمكن بيعها بعد ذلك وتحقيق الأرباح. كذلك أثّرت المنافسة بين مجموعات المصالح العسكرية في اختيار المتعاقدين من الباطن. في غضون ذلك، أبقت المؤسسة العسكرية في الغالب على مسافة بينها وبين كبار رجال الأعمال، ولم تلجأ إليهم إلا حين احتاجت إلى مزاياهم في رأس المال، والدراية التقنية، والوصول إلى الأسواق الدولية في مشاريع البناء والمشاريع الصناعية الكبرى.

مع ذلك، بدّلت المؤسسة العسكرية مسارها في الأعوام الماضية، إذ فرض الحجم الهائل للمشاريع المدنية التي تديرها تغييرًا في النهج لتحقيق قدرٍ أكبر من الكفاءة. في العام 2019، إن لم يكن قبل ذلك، باشر الجيش روتينيًّا إقامة شراكات مع بعض كبريات الشركات الخاصة المصرية من أجل أن يعهد إليها بالإدارة الشاملة للمشاريع، بما في ذلك عملية المناقصات، فحرّر نفسه بهذه الطريقة ليتمكّن من التنويع عبر التوجّه نحو قطاعات وأنشطة اقتصادية جديدة. واللافت أن هؤلاء الشركاء في قطاع الأعمال الخاص كانوا عادةً عبارة عن شركات قابضة كبرى حافظت على استقلال نسبي داخل مصر من خلال الإبقاء بصورة أساسية على جزء كبير من رؤوس أموالها وأسواقها خارج البلاد. في المقابل، واجهت الشركات الكبرى التي تفتقر إلى مثل هذه الحماية الدولية صعوبات وتأخيرات جمّة في الحصول على موافقة الحكومة على استثماراتها الكبيرة وفي تقديم المناقصات للفوز بالعقود التي يديرها الجيش. ولكن كلا المجموعتَين من الشركات لا تتمتّعان بنفوذ سياسي أو اقتصادي؛ فالمؤسسة العسكرية تستخدمهما ولكنها لا تسمح بتمكينهما. 

من التواطؤ إلى الإكراه

يتواءم الكثير ممّا تفعله المؤسسة العسكرية المصرية في الميدان الاقتصادي، وتطمح إليه في الميدان الاجتماعي مع تفضيلات مجتمع الأعمال والطبقة الوسطى العليا وتطلّعاتهما. ويتّضح ذلك من خلال استثمارات الجيش الضخمة في (1) المشاريع العملاقة مثل إنشاء عاصمة جديدة بالكامل، ومدن "ذكيّة" مسوّرة مصنوعة من الزجاج والفولاذ، وشواطئ اصطناعية على نموذج دبي، وقطار فائق السرعة يربط بين هذه المدن؛ و(2) المشاريع الاجتماعية الثقافية مثل المتحف المصري الكبير، وتطوير مساحات من واجهة النيل في القاهرة، وبناء مدارس وجامعات خاصة تروّج للتعليم الدولي. ولكن في حين أن هذا النهج يعوّل في نهاية المطاف على تبنّيه ماليًّا من أصحاب رؤوس الأموال الخاصة، فإن القوات المسلحة لا تمنحهم سلطة سياسية أو تحكّمًا اقتصاديًّا. على النقيض من ذلك، لقد عمدت باطّراد إلى تعزيز استقلالها عن أي ائتلاف اجتماعي واضح المعالم. وفي ما يبدو وكأنه تأكيدٌ على ذلك، حوّلت القوات المسلّحة ممارسة تُعَدّ في الواقع ابتزازًا للشركات الكبيرة والصغيرة إلى ممارسة روتينية تتمثّل في جمع تبرّعات شهرية يُفترَض أنها طوعية لصندوق "تحيا مصر" التنموي الذي هو المشروع المدلّل للرئيس ويرأسه مدراء عسكريون. هذه الممارسة هي بمثابة تأديب لرجال الأعمال كما أنها تشكّل نمطًا من أنماط الضرائب غير الرسمية للتعويض عن عجز الدولة المزمن عن زيادة كفاءة تحصيل الضرائب. 

نتيجةً لهذا التهميش، فإن مستوى الاستثمارات الخاصة من إجمالي الناتج المحلي يسجّل في عهد السيسي نسبة أقل ممّا كان عليه خلال الحقبة الاشتراكية في ستينيات القرن العشرين. من الواضح أن رهان السيسي على خضوع القطاع الخاص المصري للرأسمالية القسرية بالشكل الذي فرضه هو، أو على قدرة الجيش على توليد تدفّقات للدخل العام كافية في أسوأ الأحوال للتعويض عن نقص الاستثمارات الخاصة، محفوفٌ بالمخاطر. وهذا يشكّل تحدّيًا هائلًا لنظام الحكم ما بعد 2013، نظرًا إلى أن عليه خدمة ديون طائلة وسدادها، وتوفير السلع والخدمات العامة للسكان الذين تزداد أعدادهم سريعًا وسط تفاقم الفقر، وعليه أيضًا، بحسب البنك الدولي، توليد استثمارات خاصة بقيمة 230 مليار دولار أميركي لسدّ حاجات البنية التحتية وفجوات التمويل بحلول العام 2038.9 على الرغم من أن السيسي ضاعف الجهود منذ العام 2018 لتحفيز الاستثمار الخاص، فإن الأولوية التي يوليها للإبقاء على سيطرة الدولة والحفاظ على ولاء القوات المسلحة دفعت به حتى الآن إلى التركيز على جذب الاستثمارات الخاصة لتسييل أصول الدولة وشركاتها، من دون التخلّي عن الفرص الاقتصادية المهمة. ولذلك، فإن الإعلان عمّا مجموعه57  مليار دولار من التمويل الدولي لمصر (من الإمارات العربية المتحدة وصندوق النقد الدولي والاتحاد الأوروبي والبنك الدولي) في النصف الأول من العام2024 أرجأ الأزمة، من دون أن يغيّر نمط المضاربة في الرأسمالية القسرية المصرية أو أن يزيل تناقضاتها الضمنية.

من أجل التوصل إلى حلول لمشاكل البلاد المزمنة المتمثّلة في تدنّي الاستثمار والإنتاجية، ونقص الفائض والمدّخرات المحلية، وضعف الصادرات غير الأوّلية، سيضطرّ السيسي إلى وضع حدٍّ لتهميش طبقة الأعمال بوصفها قوة اجتماعية سياسية والدخول في شراكة سياسية جديدة وغير مألوفة معها. فممارسته التعسفية للسلطة جعلت من الصعب إعادة بناء الثقة مع هؤلاء الحلفاء الطبيعيين. وهو يواجه تحدّيًا أصعب مع "الأوليغارشية المشاكسة المؤلَّفة من كبار الضباط الذين يعتبرون... أنفسهم أندادًا ذوي حقوق في تقاسم السيطرة على أصول الدولة"، نقلًا عن المؤرّخ كارل ف. بيتري في وصفه للعلاقات بين سلاطين المماليك وقادتهم العسكريين في حقبة سابقة من تاريخ مصر. ولكن حتى لو ظهر ائتلاف حاكم جديد يضمّ مسؤولي الدولة، والقوات المسلحة، والشرائح العليا من القطاع الخاص، فلن يؤدّي ذلك إلى "إطلاق العنان للسوق أو تحريرها"، ناهيك عن الدمقرطة. بل إن أي تحالف يتشكّل في إطار الرأسمالية القسرية في مصر سينجم عنه على الأرجح "’تغليف‘ الأسواق أو حمايتها من السيطرة الديمقراطية".

لقد ساهم استعداد الحلفاء الخارجيين في الخليج والغرب لتقديم المساعدة المالية لمصر بمقدار 9 مليارات دولار أو أكثر سنويًّا منذ العام 2014 في دعم بقاء إدارة السيسي، ومن ثم شراكة الرئيس مع القوات المسلحة. لكن يتّضح بصورة متزايدة، وحتى بعد الضخ الضخم لرؤوس الأموال الجديدة في العام 2024، أن التحالف مع طبقة الأعمال هو وحده كفيلٌ في المدى الطويل بأن ينقذ نموذج الرأسمالية القسرية الذي هندسه السيسي والقوات المسلحة. ليس واضحًا إذا كان من الممكن إدراج القطاع الخاص في الشراكة بين الرئيس وجيشه من دون أن يؤدّي ذلك إلى تفكّكها. ولكن المؤكّد هو أن كلتا النتيجتَين تَحولان دون اتّخاذ أي خطوة فعلية نحو الدمقرطة الحقيقية.

يزيد صايغ باحث رئيسي في مركز مالكوم كير–كارنيغي للشرق الأوسط في بيروت، لبنان.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.