مدى مصر
«وثيقة السياسات الضريبية المُسربة»: غموض في إعفاءات المستثمرين.. واستهداف أكبر للأفراد
نشرت وزارة المالية، مطلع الشهر الماضي، ما قالت إنه مسودة «وثيقة السياسات الضريبية 2023/2024»، ثم حذفتها، بعد ساعات، قبل أن يُعلن الوزير السابق، محمد معيط، في الثالث من يونيو، أن الوثيقة «ما زالت تحت الدراسة ولم نطرحها للحوار المجتمعي حتى الآن»، وأن نسختها المتداولة بمواقع التواصل الاجتماعي كانت مجرد «تصور مبدئي تم إعداده منذ عدة أشهر وطرأت عليه تعديلات كثيرة».
الوثيقة، التي اطلع «مدى مصر» على نسخة منها، وصفها مصدر مطلع على ملف السياسات الضريبية بـ«المالية» بأن السياسات التي تضمنتها تتماشى مع التوافقات بين الوزارة وصندوق النقد الدولي، لافتًا إلى أن «المالية» فتحت تحقيقًا داخليًا في ملابسات «تسرب» الوثيقة للرأي العام بنشرها على موقع الوزارة.
في المقابل، اعتبرت مصادر متعددة تحدثت لـ«مدى مصر» أن الوثيقة أظهرت نوايا الحكومة في توسيع حصيلتها الضريبية من الطبقات الأقل دخلًا، مقابل غموض طريقة تعاملها مع الإعفاءات التي يستفيد منها المستثمرين.
كانت «المالية» اقترحت في الوثيقة جذب الاستثمارات عبر تبني نظام ضريبي متميز، بدلًا من أنظمة الحوافز الضريبية التي اعتبرت أنها تنتج تشوهًا في المناخ الاستثماري للدولة.
ورغم اللغة الغامضة التي لم تكشف عن كيفية تقليص الحوافز الضريبية، اعترفت الوزارة في الوثيقة بأن الدولة تبنت مؤخرًا الكثير من الإعفاءات الموجهة للمستثمرين، متوقعة أن يظهر تأثيرها السلبي على الإيرادات الضريبية في السنوات المقبلة، مثل حوافز صناعة الهيدروجين، وأحكام قانون الاستثمار، وكذلك مشروعات قوانين مثل: المناطق الصناعية الخاصة، والصناعات الاستراتيجية، والمناطق اللوجيستية، وحي المال واﻷعمال.
المصدر المطلع على ملف السياسات الضريبية في وزارة المالية أشار إلى مثال على التضارب بين السياسات التي تقترح الوزارة تبنيها وبين ما تنفذه الحكومة فعليًا، لافتًا إلى تزامن إعداد الوثيقة مع إعلان تأسيس منطقة حرة خاصة في منطقة رأس الحكمة، «ما يعني أن الشركة الجديدة التي أسست لتنفيذ مشروع رأس الحكمة حصلت بالفعل على إعفاءات ضريبية لن تتأثر بتعديل السياسات والقوانين، إن حدثت، لأن تلك التعديلات التشريعية لا تسري بأُثر رجعي».
وأضاف المصدر: «المشكلة هنا أن مصر ملتزمة بما يعرف بـ«الركيزة الثانية»، وهو مبدأ ضريبي دولي يُخضع الشركات للضريبة في دولة المنشأ، في حال امتد نشاطها لدول أخرى لم تخضعها للضريبة، ويعني ذلك أن الشركات الأجنبية التي تفتح فروعًا أو شركات تابعة في المناطق الحرة في مصر وتستفيد من إعفاءات ضريبية، ستدفع تلك الضرائب في الدولة الأم، ما يعني أن مصر لن تستفيد من تلك الإعفاءات في جذب المستثمرين الأجانب، بل ستخسر فقط عوائد ضريبية».
وأوضح المصدر أن الحكومة سبق وتعهدت بتخفيض الإعفاءات الضريبية الموجهة للمناطق الحرة «ضمن سياسة متوسطة الأجل للإيرادات العامة اتفقت مع صندوق النقد عليها، لم تنشر بالكامل ضمن وثائق الصندوق».
واطلع «مدى مصر» على ملخص تقرير وجهه الصندوق للحكومة المصرية، في أبريل الماضي، ضمن برنامج للدعم الفني، أشار إلى مخاوف متزايدة بشأن تكلفة الأنظمة الضريبية التفضيلية للمناطق الحرة.
وعلى صعيد الضرائب المرتبطة بالمستثمرين، تعهدت «المالية» في وثيقتها بعدم زيادة سعر الضريبة على الشركات [22.5%]، مشيرة إلى أنه «يعد تحت المتوسط المقارن بالنسبة للدول النظيرة وكذلك تحت المتوسط العالمي»، معتبرة أن ذلك يجعل لمصر «ميزة تنافسية على باقي الدول في المنطقة أو النظيرة لها اقتصاديًا».
كان وزير المالية قال، في أبريل الماضي، قبل «تسرب» الوثيقة، إنها «تهدف إلى خلق درجة عالية من وضوح الرؤية للمستثمرين بخصوص السياسات الضريبية المستقبلية، وزيادة قدرة المستثمرين على بناء الخطط المستقبلية لاستثماراتهم في مصر، وبناء نماذج التنبؤ والنماذج المالية ودراسات الجدوى الاستثمارية للمشروعات بشكل أفضل وبدرجة عالية من اليقين الضريبي».
الرئيس الأسبق لمصلحة الضرائب، أشرف العربي، الذي اطلع على الوثيقة المُسربة، قال لـ«مدى مصر» إن أبرز ما ينقصها، هو الإجابة عن سؤال يهم المستثمرين بشدة، وهو كيفية سد عجز الموازنة، الذي بلغ في موازنة العام الجديد تريليون و200 مليون جنيه، «لأن التعهد بعدم رفع سعر الضريبة في حد ذاته لا يمثل تأكيدًا كافيًا لأي مستثمر جديد، لأن المنطق المباشر سيفترض احتمالية رفع سعر الضريبة طالما بقى عجز الموازنة مرتفعًا للغاية، لأن الضرائب هي المصدر الرئيسي للإيرادات كما هو معروف».
في المقابل ركزت الوثيقة بصورة عامة على زيادة الإيرادات من الضرائب المرتبطة بالطبقات الأدنى، واعتبرت الوزارة أن كفاءة الالتزام الضريبي لـ«القيمة المضافة» منخفضة مقارنة بالدول الشبيهة بمصر، ما يعني ضعفًا في كفاءة تحصيلها بسبب التهرب الضريبي وقائمة الإعفاءات الطويلة والأسعار المختلفة للضريبة.
وبحسب الوثيقة، ستفتح «المالية» حوارًا مع المجتمع الضريبي لـ«ترشيد الأسعار المخفضة للضريبة»، و«ترشيد الإعفاءات بشكل كبير، والإبقاء على السلع والخدمات التي لها تأثير مباشر على محدودي الدخل دون غيرها»، وذلك دون توضيح لطبيعة ونطاق تلك السلع والخدمات.
مسؤول بارز سابق في وزارة المالية، اطلع بدوره على الوثيقة، قال لـ«مدى مصر»، إن فكرة ترشيد الإعفاءات من «القيمة المضافة» تبدو غامضة، وأن الوثيقة لم توضح طبيعة الإعفاءات المستهدف إلغائها.
وأشار المصدر، الذي طلب عدم ذكر اسمه، إلى أن قائمة الإعفاءات تحتاج لأن تتسع لا أن تقل، ضاربًا المثل بالكثير من المطاعم الشعبية التي يفترض أن يشملها الإعفاء، في ظل سريان الضريبة فقط على المطاعم السياحية، في حين تخضع المطاعم الشعبية فعليًا للضريبة لأن اللائحة التنفيذية لقانون الضريبة على القيمة المضافة اعتبرت كل المطاعم التي تمتلك فروعًا، سياحية، ما يجعل الكثير من مطاعم الفول والطعمية مثلًا خاضعة لضريبة القيمة المضافة.
المصدر نفسه أوضح أنه رغم إعفاء الخدمات الصحية والتعليمية الخاصة من الضريبة، إلّا أن الكثير من مدخلاتها خاضعة للضريبة، وهو أمر يحتاج أن يعالج بحسب وصفه، مضيفًا «في مقابل فرض الضريبة على سلع وخدمات حيوية، تتسع الإعفاءات حاليًا لتشمل الخدمات المصرفية وخدمات الشركات الخاضعة لهيئة الرقابة المالية، وهي مساحة من الإعفاءات يفضل طبعًا أن تلغى»، كونها لا تستهدف محدودي الدخل، فضلًا عن عدم وجود مبرر واضح لإعفائها من الضريبة، حسب رأيه.
كما انتقد المسؤول السابق بالوزارة ما أشارت له الوثيقة من ضرورة التركيز على زيادة الإيرادات من ضريبة المرتبات، موضحًا أنها تمثل 21% تقريبًا من الإيرادات الضريبية حاليًا، «وهي نسبة مرتفعة طبعًا» حسب قوله، فيما أضاف أن العدالة تقتضي البحث عن سبل لتخفيض اﻷعباء على الأفراد عبر إعادة النظر في شرائح الضريبة، ما سينعكس إيجابًا على الالتزام بسداد ضرائب النشاط التجاري والصناعي، بما يكافئ التخفيض الذي سيحدث في إيرادات ضرائب المرتبات.
أما المصدر المطلع على ملف السياسات الضريبية، فرأى إن الوزارة قدمت في وثيقتها تصورًا مضللًا حول الحصيلة من ضرائب المرتبات، «عبر استعراضها بشكل يضم شرائح واسعة جدًا من الدخول، من يحصل على 60 ألف جنيه سنويًا مع من يحصل على 700 ألف جنيه، وذلك للتقليل من المساهمة الكبيرة للشريحة التي يتراوح دخلها ما بين 60 ألف جنيه و300 ألف جنيه بالذات، لأن إبراز حجم مساهمتها سيعني المطالبة بتخفيف العبء الضريبي عنها، وهو ما لا تريده الوزارة، التي تمثل لها تلك الشريحة مصدرًا مضمونًا وسهلًا للضرائب لا تريد أن تفقده».
كانت وزارة المالية تلقت انتقادات حادة لسياساتها الضريبية في جلسة مغلقة استضافها معهد التخطيط القومي، خلال الشهر المنقضي، بمناسبة صدور الوثيقة، وبحضور عدد من خبراء المعهد، يتقدمهم رئيسه أشرف العربي، وزير التخطيط السابق، مع نواب برلمانيين وممثلين للمجتمع المدني ومسؤولين حكوميين سابقين، حسبما قال لـ«مدى مصر» مصدر حضر الجلسة، وطلب عدم ذكر اسمه، مشيرًا إلى أن المسؤولين عنها طلبوا من المشاركين عدم الإفصاح عن مضمونها.
بحسب المصدر، طالت الانتقادات خلال الجلسة استمرار تأخر الدولة في تطبيق ضريبة الأرباح الرأسمالية على البورصة، والذي اعتبره عدد من الحاضرين نتيجة للضغوط السياسية على الحكومة من المستثمرين في البورصة.
وأوضح المصدر أن الحاضرين أجمعوا بشكل أكبر على انتقاد «تركيز الدولة على جلب الضرائب السهلة بغض النظر عن عدالتها، وخصوصًا من ضريبة القيمة المضافة وضريبة المرتبات، في مقابل التدني الشديد للحصيلة من ضرائب الشركات».
بحسب المصدر، شدد أغلب من حضر جلسة «التخطيط» على ضرورة رفع حد الإعفاء من ضرائب الدخل، «عبر الوصول به إلى مستوى الحد الأدنى للأجور، أو تعديله سنويًا ليتوافق مع مؤشرات التضخم بشكل تلقائي دون قرارات إدارية».
ويصل حد الإعفاء من ضرائب الدخل حاليا إلى 60 ألف جنيه سنويًا، أي خمسة آلاف جنيه شهريا، ما يقل عن الحد الأدنى للأجور المقرر في القطاعين العام والخاص والذي يبلغ ستة آلاف جنيه شهريًا.
كانت الوثيقة طرحت في سياق العدالة الضريبية «دراسة إعادة هندسة الشرائح الضريبية للأفراد»، خلال عام 2025، دون تحديد موعد تنفيذ أو نطاق إعادة تلك الخطوة.
المسؤول السابق في وزارة المالية اعتبر من جهته أن ما تجاهلت الوثيقة ذكره هو سبب استمرار تدهور الحصيلة الضريبية كنسبة من الناتج المحلي، لا مجرد ضعفها ، مضيفًا: «كل ما نسمعه في هذا السياق هو شعارات حول توسيع القاعدة الضريبية، وهو أمر لو كان ثمة دليل على تحققه كان سيتجسد في نجاح قانون المشروعات الصغيرة والمتوسطة في جذب المزيد من الممولين إلى القطاع الرسمي وبالتالي تحقيق إيرادات ضريبية من تلك المشروعات، وهو ما لم يحدث لأسباب على رأسها فرض تسجيل منشآت صغيرة للغاية لا تتخطى قيمة أعمالها 500 ألف جنيه سنويًا في ضريبة القيمة المضافة، وهو ما يتطلب تكاليف مرتبطة بـ الحسابات والسجلات، وهو أمر غير مناسب لحجم تلك المشروعات».
الرابط