رابط التقرير
موقع زاوية ثالثة فى عدد اليوم الجمعة 16 اغسطسسيناريوهات التغيير السياسيّ والانتقال الديمقراطيّ في مصر
مع تزايد التوترات السياسية والاجتماعية، تتزايد احتمالات انفجار اجتماعي واسع قد يعصف باستقرار الدولة المصرية وقدرتها على أداء مهامها
يرى كثير من المراقبين للأوضاع في مصر أنّ هناك احتمالات متزايدة لحدوث انفجار واسع النطاق قد يؤثّر في قدرة إلى أجهزة الدولة على أداء مهامّها الأساسيّة في حفظ النظام العامّ والأمن. لا تزال مشاهد أحداث يوم “جمعة الغضب” (28 يناير 2011)، ماثلة في أذهان كثير من المصريّين. في ذلك اليوم، انسحبت قوّات الأمن والشرطة في مواجهة مظاهرات حاشدة اندلعت في مناطق مختلفة من العاصمة المصريّة، وفي مدن أخرى، وواكب الاحتجاجات هجمات على أقسام الشرطة ومقارّ الأمن وإحراق بعضها، واقتحام بعض السجون وفتح بعضها الآخر، ممّا أدّى إلى مظاهر للفوضى وانعدام للأمن العامّ، دفع المواطنين إلى الاعتماد على تنظيم أنفسهم، بتلقائيّة وعشوائيّة، لحماية مناطقهم ومساكنهم، حتّى تمكّنت القوّات المسلّحة من إتمام خطّة الانتشار، الّتي أتبعتها بإجراءات لإعادة الشرطة كجهاز مدنيّ مسؤول عن حفظ الأمن العامّ.
وكثيرًا ما يتمّ استدعاء هذه المشاهد، في الخطاب السياسيّ العامّ، للتحذير من مغبّة تكرار ما جرى من أحداث وقعت في سياق ما بات يعرف في الأدبيّات السياسيّة بـ “ثورة 25 يناير”، والّتي يصوّرها الخطاب الرسميّ بأنّها مؤامرة خارجيّة تستهدف أمن واستقرار مصر، في سياق ما يطلق عليه حروب الجيل الرابع وحروب الجيل الخامس، مع التذكير في كلّ مناسبة بالوضع في دول مجاورة، كالسودان أو اليمن أو سوريا أو ليبيا. والرسالة هنا قبول الوضع الراهن؛ لأنّ البديل هو الفوضى وانعدام الأمن.
غير أنّ الاضطرابات السياسيّة الّتي شهدتها دولة بنجلادش وهي دولة تسكنها أغلبيّة مسلمة في شبه القارّة الهنديّة، تقع في جنوب آسيا بين الصين والهند، تطرح تساؤلات كبيرة بشأن الاستقرار في البلدان الّتي تتبع حكوماتها سياسات تزيد حدّة الانقسامات الاجتماعيّة والسخط الشعبيّ، وبشأن ما قد يترتّب على الفراغ في السلطة من سيناريوهات مستقبليّة، يرصدها علماء السياسة والاجتماع السياسيّ، من بينها احتمال استيلاء جماعات غير ديمقراطيّة على السلطة، أو التوسّع في الاعتماد على الجيش في إدارة الدولة وتعزيز نمط الحكم العسكريّ؛ وظهور قوى اجتماعيّة وسياسيّة تجنح إلى التطرّف في مواجهة الآثار الناجمة عن الإطاحة بالحاكم، وما قد يترتّب على ذلك من تداعيات إقليميّة، وربّما دوليّة.
قدّمت الأحداث في بنجلادش مزيدًا من الحجج الّتي أخرى تدعم الاقتناع المتزايد لدى كثير من الفاعلين السياسيّين والاجتماعيّين، بخصوص عدم قدرة الحكومات المدنيّة على التعامل مع المشكلات الملحّة للقطاعات الكبيرة من المواطنين، كما تطرح عدّة سيناريوهات محتملة للتغيير السياسيّ في المجتمعات الّتي تعاني أزمات بسبب التحدّيات الداخليّة والخارجيّة، وبسبب عدم قدرة حكوماتها على كسب رضا المحكومين.
على الرغم من المخاطر الكبيرة الّتي تنطوي عليها أيّ محاولة لتغيير الحكومات بالقوّة، أو من خلال تصعيد الاحتجاجات الشعبيّة، إلّا أنّ استمرار الوضع القائم والسياسات المتّبعة ينطوي، في كثير من الأحيان، على مخاطر أعظم، يرصدها علماء السياسة والاجتماع، بل إنّ تلك السياسات قد تؤدّي إلى حدوث احتجاجات عفويّة واضطرابات عنيفة وفوضى، يصعب على أيّ قوّة السيطرة عليها، وهو سيناريو حذّرت منه شخصيّات في أحزاب المعارضة وكثير من المراقبين للتطوّرات السياسيّة والاجتماعيّة في مصر.
فقد حذّر المرشّح الرئاسيّ المصريّ، فريد زهران، في أوّل مؤتمر صحفيّ لإعلان ترشّحه في 3 أكتوبر 2023، وفي مؤتمره الصحفيّ الثاني لإعلان برنامجه الانتخابيّ في 9 نوفمبر 2023، من مغبّة السياسات المتّبعة، وأنّها قد تؤدّي إلى فوضى، منبّهًا إلى عدم وجود قوى سياسيّة قادرة على احتوائها والتعامل معها مثلما كان الحال في عام 2011، في إشارة إلى الفراغ السياسيّ الّذي تعانيه مصر.
ويؤكّد المسار الّذي مضت فيه مصر بعد عام 2011، خطورة غياب الحياة السياسيّة، والّذي حذّر من مغبّته تقرير للمجموعة الدوليّة لإدارة الأزمات، وهي مؤسّسة أبحاث دوليّة مرموقة مقرّها بروكسل، صدر في سبتمبر 2003، بعد أشهر من الغزو الأمريكيّ للعراق والإطاحة بحكم صدّام حسين وحزب البعث، بعنوان “تحدّي الإصلاح السياسيّ: مصر بعد حرب العراق”، وأشار إلى ارتباط غياب حياة سياسيّة ذات مصداقيّة في مصر، وفي معظم بلدان المنطقة، الوثيق بقضايا تؤثّر في استقرار هذه الدول على المدى الطويل، حتّى لو لم يؤدّ هذا الغياب بالضرورة إلى نشوب صراعات عنيفة. لقد كانت الضغوط من أجل التغيير الّتي بلغت ذروتها في انتفاضات 2011، فرصة أخرى ضاعت من أجل إحداث تغييرات جذريّة من شأنها معالجة هذه القضايا، ومعالجة الاختلالات الّتي تعانيها العلاقة بين مكوّنات النظام السياسيّ، من ناحية، وفي العلاقة بين الدولة والمجتمع، من ناحية أخرى، والإشكاليّات المتعلّقة بإعادة بناء هياكل الدولة الموروثة عن الحقبة الاستعماريّة على نحو يسمح بتطوّر المجتمعات، وهو ما يعرف في أدبيّات التنمية السياسيّة بمشكلات بناء الدولة، من ناحية ثالثة.
ثلاثة سيناريوهات محتملة
هذه الإشكاليّات الثلاثة المرتبطة بغياب الحياة السياسيّة، تحدّد السيناريوهات المحتملة للمستقبل في مصر، وفي دول أخرى، في المنطقة. بشكل عامّ، يمكن الحديث عن ثلاثة سيناريوهات للمسارات المحتمل أن يسلكها التطوّر السياسيّ في مصر في المدى القصير والمتوسّط. السيناريو الأوّل، هو سيناريو الإصلاح المدار الّذي يبقي على الوضع القائم لعلاقات القوى في النظام السياسيّ والمجتمع، من أجل التخفيف من حدّة التناقضات للحيلولة دون حدوث انفجار ودون تغيير أيّ من البنود الّتي تمضي فيها الحكومة، والّتي تعبّر عن تصوّرها للتغيير السياسيّ من أجل المستقبل، بغضّ النظر عن الأثمان الاجتماعيّة الفادحة لإحداث هذه التغييرات، وإعادة تشكيل المجتمع لصالح طبقة اجتماعيّة جديدة تمتلك الثروة ومندمجة مع المراكز الاقتصاديّة العالميّة، وتتحكّم في موارد ماليّة ضخمة، والإفقار المستمرّ لشرائح في الطبقة الوسطى وانتقال الاقتصاد بشكل كامل من الاقتصاد الإنتاجيّ إلى اقتصاد خدمي، يعتمد على أداء وظائف محدّدة في النظام الرأسماليّ العالميّ. ولا تدرك نخبة الحكم النتائج الكارثيّة المترتّبة على سلوك هذه الطبقة الاجتماعيّة الجديدة الّتي كان معظم أفرادها ثروتهم من المضاربات العقاريّة والاستثمار في أسواق الأوراق الماليّة الدوليّة أو الالتحاق بشركات دوليّة كبرى، ولا تدرك خطورة التفاوتات الرهيبة في مستويات الدخل وما قد يترتّب على الانقسامات الاجتماعيّة الّتي تفرزها هذه السياسات. وتعزّز هذه السياسات سلسلة من التشريعات والإجراءات الأمنيّة للتعامل مع الأصوات المعارضة والساخطة وزيادة القمع ومصادرة الحرّيّات.
وبسبب طبيعة النظام السياسيّ الّذي يركّز السلطات في يد رئيس الجمهوريّة، لا يمكن معرفة ما إذا كانت هذه الاختيارات السياسيّة مرتبطة بتوجّهات نخبة سياسيّة واجتماعيّة أم أنّها تعبّر فقط عن توجّهات الرئيس ورؤيته، لكن لا شكّ في أنّ هناك قوى اجتماعيّة مستفيدة من هذه السياسات وتدافع عنها. كذلك، فإنّ هذه السياسات تؤدّي إلى مزيد من التدهور في مستويات معيشة الغالبيّة العظمى من المصريّين، وتؤدّي إلى تحلّل النظام السياسيّ، كما أنّ تعميق التناقضات الطبقيّة يزيد احتمالات الصراع الاجتماعيّ العنيف.
السيناريو الثاني، هو انتصار تيّار الإصلاح داخل النظام السياسيّ، والتعامل مع مشكلة غياب الحياة السياسيّة، كأزمة يعانيها النظام، وليس كفرصة يسعى لاستغلالها. أحد الأسباب الكبرى المرتبطة بهذه المشكلة وأيضًا إحدى النتائج الكبرى المترتّبة على استمرارها تتعلّق بمفهوم الدولة الّذي دخلت عليه تغيّرات كثيرة نتيجة للتطوّر التقنيّ والعلميّ وتعقد النظام الرأسماليّ العالميّ مع صعود العولمة، لقد تجاوز العالم مفهوم الدولة لصالح أشكال أكثر تعقيدًا من الإدارة الفعّالة، المرتبطة بمفهوم الحكم الرشيد. لقد انتقد الرئيس عبد الفتّاح السيسي، في أكثر من مناسبة، المفاهيم السائدة عن الدولة، وهذه الانتقادات مرتبطة، على ما يبدو، بالعوامل البنائيّة والثقافيّة وبتراث الاستبداد الاجتماعيّ والثقافيّ والسياسيّ، والثقافة الأبويّة الراسخة في المجتمع، وهي موجّهة بدرجة ما إلى بيروقراطيّة الدولة المركزيّة. والسؤال، هل تنصب هذه الانتقادات على مفهوم الدولة الوطنيّة المرتبطة بثقافة البيروقراطيّة العسكريّة والأمنيّة، وهل يمكن أن يكون لهذه الانتقادات أيّ تأثير في ظلّ عجز التيّارات المدنيّة عن تطوير مفهوم عمليّ واضح للانتقال الديمقراطيّ يستند إلى آليّات تنفيذيّة محدّدة، وامتلاك رؤية لتطوير مؤسّسات الدولة المدنيّة الديمقراطيّة، وبلورة بديل يخرجنا من حالة حصر الصراع على السلطة المستمرّة منذ عقود، حيث تقف الدولة وقلبها الصلب، في مواجهة مع جماعة الإخوان المسلمين، باعتبارها الجناح الأكثر تنظيمًا في الحركة الإسلاميّة، الّتي تستمدّ شرعيّتها من الخطاب الدينيّ الّذي يجد هوى لدى القوى المحافظة المهيمنة اجتماعيًّا، والّتي جعلت العمل السياسيّ في مصر أسير هذه الثنائيّة، الّتي كثيرًا ما تؤدّي إلى حالة من الاستقطاب، تزول عندما تحتدم التناقضات الداخليّة على نحو يفتح المجال أم تحوّل جذريّ في علاقات السلطة.
بالرغم من إدراك الرئيس مدى ضعف القوى السياسيّة في مصر، وحديثه المتكرّر عن اعتماده على الظهير الشعبيّ، لتعويض غياب الظهير السياسيّ، إلّا أنّه ليس واضحًا إلى أيّ مدى يعدّ غياب الظهير السياسيّ أحد الأسباب الرئيسيّة الّتي تقف عائقًا أمام إحداث الإصلاح السياسيّ والثقافيّ، وعدم اتّخاذ خطوات جسورة لتحقيق هذا الإصلاح، رغم محاولات الرئيس المتكرّرة لدفع هذه الإصلاحات الضروريّة للانتقال إلى الدولة المدنيّة الديمقراطيّة، إذ تظلّ القوى المحافظة في المجتمع والتيّار الدينيّ مصدرًا رئيسيًّا للشرعيّة، وتحرص السلطة على عدم استعداء هذه القوى، على الأقلّ، بالمضيّ قدمًا في خطوات لا تحظى بتأييدها ودعمها. ونتيجة لذلك، جرى التراجع عن فكرة الإصلاح الثقافيّ والمؤسّسيّ الشامل إلى فكرة التغيير المدار بخطوات محسوبة وحذرة.
قد يكون من المفيد دراسة تأثير مثل هذه السياسات على مجتمعات أخرى شبيهة مثل المجتمع المغربيّ، الّذي يقدّم نموذجًا آخر لإدارة سياسيّة متحيّزة لطبقات اجتماعيّة تهيمن على السلطة، والتوسّع في اللجوء إلى الإجراءات الأمنيّة لمنع الاحتجاجات على الآثار الاجتماعيّة المترتّبة على السياسات، بدعوى “الحفاظ على الأمن العامّ”. لقد ساهم هذا الوضع في تحوّل النضال الاجتماعيّ والنقابيّ ضدّ الارتفاع الهائل في أسعار الموادّ الغذائيّة، إلى نضال سياسيّ يندّد بالقمع وخنق حرّيّة التعبير، والممارسات الّتي تتنافى وتتعارض مع نصّ الدستور، وبروز التناقضات الاجتماعيّة بين من يهيمنون على ثروات المغرب، والّذين لا يتجاوز عددهم عدد أصابع اليدين، من بينهم رئيس الحكومة، الّذي يملك محطّات للوقود وبين ملايين المغاربة الّذين يعيشون في عشوائيّات ومدن الصفيح، دون الحدّ الأدنى من المقوّمات الأساسيّة للعيش الكريم. صحيح أنّ السياسات وبرامج الحكومة المصريّة في القضاء على العشوائيّات وتطبيق برامج للمساعدات والإعانات الاجتماعيّة، مثل برنامج حياة كريمة، إلّا أنّ هذه السياسات تنجح في إخفاء الفجوة الاجتماعيّة الآخذة في الاتّساع، ولن تستمرّ كثيرًا ما لم يدعمها برامج للتنمية البشريّة وخطّط للانتقال إلى الاقتصاد الإنتاجيّ وتوفير فرص العمل، وخطّط أخرى لمكافحة الفقر وهي تحدّيات اقتصاديّة يصعب التعامل معها لتحقيق العدالة الاجتماعيّة.
إصلاح سياسيّ أم تغيير مدار؟
السيناريو الثالث وهو من السيناريوهات المستبعدة تحقّقها في المدى القريب أو المتوسّط من واقع تحليل مخرجات الحوار الوطنيّ، هو سيناريو الإصلاح السياسيّ الّذي يضع الأسس والمقوّمات الضروريّة للانتقال إلى نظام مدنيّ ديمقراطيّ، يكون هو الأساس لنظام مستقرّ يجري من خلال تداول السلطة، ولم يظهر النظام السياسيّ الّذي تأسّس بعد الإطاحة بالنظام الملكيّ وتأسيس النظام الجمهوريّ، والّذي يلعب الجيش دورًا محوريًّا في دعمه والحفاظ عليه، أي نيّة للتحوّل نحو نظام مدنيّ ديمقراطيّ دستوريّ، يقوم على مبدأ السيادة الشعبيّة، ويرسّخ سيادة القانون، ويشرع في الإشراف على برنامج للتنمية السياسيّة يعالج الاختلالات الثلاثة المشار إليها، وفي مقدّمتها اختلال علاقات بين الدولة والمجتمع، ذلك أنّ التوازن بين الدولة والمجتمع، بشكل محدّد، وبين المجتمع والنظام السياسيّ بشكل أوسع، هو الركيزة الأساسيّة لأيّ استقرار سياسيّ منشود، وهي الأساس لإصلاح العلاقات العسكريّة-المدنيّة، الّتي تعدّ إحدى الإشكاليّات الأساسيّة في بناء الدولة، وفي تأسيس الحكم المدنيّ الديمقراطيّ.
هنا يقف نموذج الدولة المركزيّة ذات التراث التاريخيّ الممتدّ في عمق التاريخ المصريّ عائقًا أمام مثل هذا التحوّل. ويرى عالم السياسة المصريّ الراحل، نزيه الأيّوبي (1944-1995)، أنّ الدولة المركزيّة وتضخيم الدولة على حساب المجتمع، إحدى الإشكاليّات الكبرى أمام التطوّر السياسيّ في مصر في الدول العربيّة الأخرى، غير أنّ تحليله لمفهوم الدولة وتشكّلها في المنطقة العربيّة، وبنيّة المجتمع، يكشف عن اختلالات أخرى أكثر جذريّة، لها تأثير في التصوّرات السائدة لمفهوم السلطة، وتسمح هذه الاختلالات بتمدّد الحركات السياسيّة ذات المرجعيّة الدينيّة لشغل الفراغ الناجم عن التضييق على الأحزاب السياسيّة وتأميم العمل السياسيّ، بل توظيف هذه الجماعات عند الضرورة لإضفاء شرعيّة على النظام، في مواجهة أيّ انتفاضات شعبيّة محتملة أو احتواء أيّ احتجاجات اجتماعيّة على سياسات النظام أو لمواجهة ضغوط خارجيّة. وارتبط بهذه الأطروحة الإعلاء من شأن الدور الإداريّ للدولة على حساب الوظيفة السياسيّة، والّذي يجري التعبير عنه من خلال طرح مفهوم التكنوقراط كبديل لمفهوم السياسيّ، الأمر الّذي يرسّخ واقع غياب الحياة السياسيّة.
وكثير من الإشكاليّات المرتبطة بالممارسة الّتي نالت من مفهوم سيادة القانون والدولة القانونيّة، مرتبط برسوخ هذا المفهوم للدولة المركزيّة المتضخّمة، والّتي تجنح مؤسّساتها، في كثير من الأحيان، إلى تغليب منطق القوّة على منطق القانون والحقّ، وما يرتبط بذلك من شيوع الفساد الناجم عن التحالفات الاجتماعيّة للسلطة، الّتي كثيرًا ما ترى أنّ القانون والدستور يقيّدان حرّيّة حركتها وقدرتها على إدارة المجتمع، ويغلّ يدها في توجيه الموارد في الوجهة الّتي تشاء، ولخدمة المصالح الاجتماعيّة الّتي تنحاز إليها، وتغليبها على أيّ مصالح أو تصوّرات أخرى للأولويّات، والاعتماد على آليّات لفرض هذه القرارات، تتحوّل بشكل متزايد من أساليب وأدوات الإقناع والتفاوض مع القوى الاجتماعيّة الّتي تتأثّر بهذه القرارات وتبريرها، الّتي كانت تعتمد عليها في السابق إلى اللجوء إلى القوّة القاهرة وقمع القوى المتضرّرة، لكنّ الملاحظ الأهمّ، هي أنّ هذه الممارسات السابقة كانت تعتمد على اقتناع واسع من قبل الطبقات الوسطى بشكل عامّ، والطبقات الوسطى في المدن بشكل أكثر تحديدًا، بمحوريّة دور الجيش في الحياة السياسيّة وإدارة شؤون الدولة والحكم وقبولها بذلك.
ومن غير المأمول حدوث أيّ تغيّر في نمط العلاقات المدنيّة-العسكريّة في مصر في المدى المتوسّط، ولن يحدث هذا التغيّر إلّا عبر سلسلة من المفاوضات للخروج من الأزمة الراهنة، والّتي سيفرضها على الأرجح ضغوط اجتماعيّة داخليّة وأخرى خارجيّة مرتبط بمصالح استثماريّة كبرى إقليميّة وعالميّة.
إنّ ما حدث في أعقاب قرار الرئيس حسني مبارك، في 11 فبراير 2011، التنحّي عن السلطة وتفويض المجلس الأعلى للقوّات المسلّحة لإدارة شؤون البلاد، هو تكرار لسيناريو تدخل للجيش لمساندة السلطة، الّذي حدث في عام 1977 (بعد انتفاضة الخبز الشعبيّة)، وفي عام 1986 (بعد أحداث الأمن المركزيّ). وجرى ترسيخ هذا الدور للجيش، من خلال التعديل الّذي أدخل، في عام 2019، على الفقرة الأولى من المادّة 200 من دستور 2014، والّذي وسّع دور القوّات المسلّحة ليشمل حماية وصيانة الدستور ومبادئ الديمقراطيّة والحفاظ على مدنيّة الدولة، ومكتسبات الشعب وحقوق وحرّيّات الأفراد، وهي مهامّ في صميم تخصّصات المؤسّسات المدنيّة للدولة. وعلى الرغم من أنّ التعديل رسخ هيمنة المؤسّسة العسكريّة على المؤسّسات المدنيّة، لكن ليس واضحًا إذا كان التعديل قطع الطريق على إمكانيّة عقد صفقة من أطراف من الحركة الإسلاميّة، لإدارة المرحلة الانتقاليّة، على غرار ما حدث في عام 2011، للالتفاف على المطالب بإجراء إصلاحات جذريّة، من أجل الانتقال إلى الحكم الديمقراطيّ.
لقد كان التراجع عن إصدار وثيقة خاصّة بحقوق المرأة، كان من المقرّر أن تلحق بوثيقة وثيقة النظام الأساسيّ للدولة، الّتي أسّست لفكرة “الدولة الوطنيّة الديمقراطيّة، الدستوريّة، الحديثة” والّتي صدرت في 19 مايو 2011، كحلّ توافقيّ بين الرؤية الّتي تطالب بأنّ مرجعيّة الدستور مدنيّة وبين الرؤية الّتي تصرّ على المرجعيّة الدينيّة للدستور، الّتي صدرت ضمن وثائق الأزهر، مؤشّرًا على الحدود الّتي يمكن أن يصلها الإصلاح السياسيّ والثقافيّ للدولة. ويعكس هذا الموقف حقيقة أنّ التغيير السياسيّ في مصر محكوم بإشكاليّة أساسيّة تتمثّل في أنّ من يمتلك القدرة على إحداث التغيير هي السلطة ذاتها المستهدفة من عمليّة التغيير هذه. ويتعذّر فهم هذه الإشكاليّة، وما تطرحه من تحدّيات، دون تحديد ما المقصود بالتغيير السياسيّ، وتحديد مفهوم السلطة بشكل عامّ، ومفهوم السلطة السياسيّة بشكل أكثر تحديدًا، وما ينطوي عليه هذا المفهوم من أبعاد تتّصل بالترتيبات والعلاقات والتفاعلات بين مكوّناتها. وتتجلّى هذه المفارقة في ضوء التحدّيات الراهنة الّتي تواجهها الدولة المصريّة، المتمثّلة في الضغوط الاقتصاديّة والاجتماعيّة كبيرة على الصعيد الداخليّ، علاوة على التحدّيات الّتي تواجهها على الصعيد الخارجيّ، والناجمة عن الصراعات على المستوى الإقليميّ، وما تنطوي من آثار تساهم في تفاقم الأزمة الممتدّة الّتي تواجهها، وتزيد احتمالات عدم الاستقرار وانهيار المؤسّسات، نظرًا لما تنطوي عليه هذه الصراعات المسلّحة من مستويات للعنف قابلة للانتشار.
يستند إلى أن شيوع التخوّف من حدوث انفجار اجتماعيّ يؤدّي إلى فوضى سياسيّة، مؤسّس على ما يلاحظه المراقبون والدارسون من تدهور عامّ في مستويات المعيشة ناجم عن الأعباء الماليّة الّتي تتحمّلها ملايين الأسر المصريّة، بسبب السياسات الاقتصاديّة الّتي تزيد مستويات التضخّم ومعدّلات البطالة والتدهور الشديد في قيمة العملة المحلّيّة، والّتي تظهر انحيازًا اجتماعيًّا واضحًا من قبل السلطة ضدّ الشرائح الدنيا من الطبقة الوسطى، الأمر الّذي يعبّر عنه مؤشّر مستوى الفقر الّذي تشير تقارير كثيرة إلى تزايد نسبة وأعداد الفقراء في مصر في السنوات القليلة الماضية، حسب مؤشّرات تكلفة المعيشة الّتي تصدرها مؤسّسات وهيئات رسميّة وطنيّة ودوليّة. لكنّ هذه التقديرات لا تؤثّر، على ما يبدو على السياسات الاقتصاديّة والاجتماعيّة الّتي تنتهجها الحكومة، ولا يوجد ما يشير إلى حدوث تغيّر في هذه السياسات، رغم التغيير الوزاريّ الّذي أجري مؤخّرًا. وتشير القرارات الّتي سبقت الإعلان عن هذا التغيير، لا سيّما قرار خصخصة المستشفيات العامّة، والشخصيّات الّتي جرى اختيارها لشغل مناصب وزاريّة، إلى مضيّ الحكومة قدمًا في برنامجها للإصلاح الاقتصاديّ، وتجاهلها للحديث المتزايد في السنوات الخمس الماضية عن انفجارات اجتماعيّة محتملة، نتيجة إحجامها عن التدخّل ببرنامج إصلاحيّ لإحداث تغييرات للتخفيف من حدّة الاحتقان الاجتماعيّ والسياسيّ. ومن الواضح أنّ النهج الأمنيّ المتشدّد الّذي يتبعه النظام للتعامل مع هذه المشكلات، يزيد احتمالات حدوث تلك الانفجارات الجماهيريّة الواسعة، والّتي ستكون مصحوبة، على الأرجح بمستويات غير مسبوقة من العنف المجتمعيّ والسياسيّ، حسبما تشير توقّعات وتقديرات يجري تداولها في التقارير الإعلاميّة.
يزيد تلك الاحتمالات التراجع الملحوظ في قدرة الدول على الاستجابة للتحدّيات الّتي تفرضها التطوّرات على الساحة الإقليميّة والمرتبطة بالحرب الدائرة في غزّة واحتمالات توسّعها إلى حرب إقليميّة أوسع. في ظلّ هذا الوضع، يصبح من المشروع، بل من الملح، طرح السؤال عن السيناريوهات المختلفة للمستقبل، وعن كيفيّة استجابة النظام السياسيّ للضغوط، والتعامل مع البدائل المختلفة المتاحة، الّتي تساعد على حدوث تغيير يسمح بإعادة بناء المجال السياسيّ يتّسع للقوى السياسيّة المختلفة، ويرسّخ صيغة للتداول السلميّ للسلطة، ممّا يقلّل من احتمالات العنف، أو يعزّز الترتيبات والأطر المؤسّسيّة لاحتوائه، وكيف يمكن لمثل هذه البدائل أن تؤدّي إلى تحقيق الانتقال الديمقراطيّ المنشود، الّذي يعدّ ركيزة أساسيّة لبناء الدولة المدنيّة الديمقراطيّة الحديثة؟
ويصبح من الواجب أيضًا التنبيه إلى مخاطر استمرار السياسات الراهنة الّتي تظهر عدم استجابة لتلك الضغوط وإغلاق السبل أمام تطوير البدائل، واستمرار تأميم العمل السياسيّ ومصادرته وحصره في حلقات ضيّقة وموالية للسلطة، والإحجام عن الشروع في عمليّة الإصلاح المنشودة، الّتي تحقّق الانسجام بين الإصلاح الاقتصاديّ والإصلاح السياسيّ بجوانبه التشريعيّة والمؤسّسيّة، والتنبيه إلى أنّ غياب عمليّة للإصلاح السياسيّ مواكبة للإصلاح الاقتصاديّ، يؤدّي إلى عدم قدرة النظام السياسيّ على التكيّف مع النتائج المترتّبة على الإصلاح الاقتصاديّ الّذي يمضي بوتيرة متسارعة، واستيعابها. إنّ مفهوم النظام السياسيّ الوارد هنا هو مفهوم أوسع من الحكومة أو السلطة السياسيّة، إذ يشمل النخب السياسيّة والاجتماعيّة القادرة على التأثير في محيطها المباشر، أو ما يعرف بالنخبة الاستراتيجيّة الّتي تتجسّد في مؤسّسات الدولة وأجهزتها الأمنيّة، وفي الأحزاب السياسيّة ومنظّمات المجتمع المدنيّ، مثل النقابات، العمّاليّة والمهنيّة، وجمعيّات رجال الأعمال واتّحادات أرباب الصناعة، والهياكل الاجتماعيّة التقليديّة.
ويجب التنبيه إلى أنّ الأزمة ذات الأبعاد المتعدّدة والحادّة جدًّا لا يمكن معالجتها إلّا من خلال مقاربة شاملة، وليس من خلال حلول اقتصاديّة آنية، ولم تعد هناك فرصة لبرنامج الإصلاح الاقتصاديّ مشابه للإصلاح الاقتصاديّ الّذي حقّقته حكومة عاطف عبيد في السنوات الأولى لحكم الرئيس حسني مبارك، لم يعد كافيًا إصلاح المؤشّرات الكلّيّة والماليّة للاقتصاد المصريّ، ولم يعد ممكنًا الاعتماد على التوسّع في الإنفاق العامّ لإحداث نتائج ملموسة على معيشة الأسر والاقتصاد، وخصوصًا أنّ الجزء الأكبر من هذا الإنفاق يأتي من الاستدانة، ويراكم المزيد من الأعباء على المدّيين المتوسّط والبعيد، ويفاقم المشاكل ولا يحلّها. مؤشّرات الأزمة الاقتصاديّة والاجتماعيّة تشكّل قنبلة موقوتة نتيجة لتسارع الانهيارات الاجتماعيّة المرافقة لعجز السلطة عن القيام بأيّ فعل للإنقاذ ينذران بانفجار اجتماعيّ في أيّ لحظة. التحوّلات لم تعد مقتصرة على ارتفاع نسب الفقر والبطالة والهجرة، وإنّما تصاعد مقلق للعنف بمختلف أشكاله.
لكنّ المشكلة أنّ القوى الّتي تطرح نفسها كبديل للسلطة القائمة، إن وجدت، ليست جاهزة بعد، ولا تقدّم بدائل مقنعة للمواطنين، ولا تزال السلطة الحاكمة لا تزال مستفيدة من توغّل وتغوّل النظام الزبائنيّ، الّذي تعتمد عليه في التعامل مع المعارضة. ومن المستبعد أن يؤدّي تغيير الحكومة على كلّ مستوياتها أن يحدث التغيير المنشود -النظام المدنيّ الديمقراطيّ، ما لم يتعامل مع القيم المؤسّسة للنظام القائم واختيار النظام الأمثل لإعادة بناء المجال السياسيّ. قد يكون التفكير في نموذج الجمهوريّة البرلمانيّة الّذي اقترحته النخب السياسيّة المصريّة في مشروع دستور 1954 الّذي ألقي في صندوق القمامة مخرجًا من هذا الوضع، أو من الممكن التفكير في بدائل أخرى ترسّخ من فكرة الحكم الدستوريّ ودولة القانون، وتبعث الروح في الحياة السياسيّة الميّتة.