الرابط
موقع زاوية ثالثةأزمة الحكم في مصر: كيف تعيق الهيمنة السياسية أفق الإصلاح؟
يناقش الكاتب أشرف راضي كيف أن هيمنة السلطة على الحياة السياسية والمجتمع تعرقل أي محاولة لإصلاح النظام السياسي، مشيرًا إلى الخصوصية التاريخية والثقافية التي تجعل هذا الوضع متجذرًا في بنية الدولة المصرية
قد يرى البعض أنّه لا طائل من التفكير في بدائل للخروج من أزمة الفراغ السياسيّ الّذي تعانيه مصر، طالما أنّه لا تتوافر إرادة سياسيّة للإصلاح، فالاعتقاد السائد، على مستوى النخبة والجمهور معًا، أنّ نقطة البدء لتنفيذ أيّ بدائل هو توفّر الإرادة السياسيّة، في إشارة واضحة إلى إرادة رئيس الجمهوريّة، بصفته رأس السلطة المهيمنة على مؤسّسات الدولة، وعلى المجال العامّ، بما في ذلك المجال السياسيّ، لا سيّما أنّ الدارسين المختصّين في الشؤون المصريّة يرون صعوبة لتحقيق التحوّل الديمقراطيّ في مصر؛ لأنّ النخب الحاكمة متردّدة في السماح بحدوث ذلك، وأنّ هناك إحجامًا واضحًا من قبل السلطة لحلّ المشكلة السياسيّة الرئيسيّة في مصر والمتمثّلة في افتقارها لحياة سياسيّة يعوّل عليها، أو غياب ما يسمّى بالظهير السياسيّ، والاعتماد على آليّات بديلة لصنع الرضا العامّ عن السياسات تحت لافتة دعم “الظهير الشعبيّ”، ويكمن وراء هذا الإحجام المعضلة الأساسيّة هي المعوّق الرئيسيّ لأيّ مشروع إصلاحيّ محتمل هي أنّ السلطة المناط بها تنفيذ الإصلاح السياسيّ ترى أنّها المستهدفة أساسًا من أيّ عمليّة للإصلاح تفرض قيودًا على صلاحيّاتها الواسعة.
هذه المعضلة قديمة قدم الدولة الحديثة في مصر، وليست وليدة اليوم أو اللحظة، وهذا الوضع هو المسؤول إلى حدّ كبير عن التحوّلات الحادّة في توجّهات السلطة السياسيّة في مصر من النظام الملكيّ إلى النظام الجمهوريّ في عام 1952، ومن نظام شبه ليبراليّ (1923-1952)، إلى نظام استبداديّ ثبّت أقدامه بعد أزمة مارس 1954، وإجهاض القوى المطالبة بالديمقراطيّة. وشهد هذا النظام نفسه تحوّلات حادّة من الاشتراكيّة في ستّينات القرن الماضي إلى سياسات الانفتاح والسوق منذ السبعينات.
في ظلّ هذا الوضع، فإنّ السؤال المطروح هل يمكن لأيّ قوى أخرى، سياسيّة كانت أم اجتماعيّة، طرح مشروع أو برنامج إصلاحيّ له مقوّمات البقاء والاستمرار، في استقلاليّة عن السلطة المهيمنة، بغضّ النظر عن مسألة تنفيذ ذلك المشروع أو البرنامج. بتعبير آخر، هل تبلورت في الرؤوس والمخيّلة السياسيّة للنخب صورة لمصر الأخرى، وهل تمّ بناء هذه الصورة استنادًا إلى معلومات ومعطيات في الواقع تساعد على الانطلاق ممّا هو قائم، وتفكّر فيما هو ممكن التحقّق، أم أنّها تستند إلى تصوّر مثاليّ ومعياريّ لما ينبغي أن يكون، بغضّ النظر عن مدى واقعيّة تلك الصورة المتخيّلة؟
لا توجد مؤشّرات إلى الآن، على ما يبدو، لمثل هذه الإمكانيّة، وذلك لأسباب بنائيّة تتعلّق بإشكاليّة علاقة الدولة بالمجتمع، وهي علاقة لها خصوصيّة تميّز مصر عن غيرها عن مجتمعات لاعتبارات إيكولوجيّة (بيئيّة) وتاريخيّة وثقافيّة. ويتّفق علماء السياسة الّذين تناولوا هذه الإشكاليّة على اختلال هذه العلاقة، تاريخيًّا، لصالح السلطة القائمة على إدارة دولة مركزيّة تتحكّم في مصادر السلطة الاجتماعيّة، ويرون أنّ هذه السلطة قادرة باستمرار على إخضاع المجتمع لـ إراداتها وتطويعه، معتمدة على حقّ الدولة المشروع في احتكار أدوات القمع، المتمثّلة في المؤسّسات العسكريّة والأمنيّة، ومن خلال التحكّم في توزيع موارد الاقتصاد المركزيّ، وفرض آليّات عمل غير ديمقراطيّة، كما أنّها تحتكر المجال السياسيّ، وتشكّله بما يتوافق مع مصالح القائمين عليها. وترسّخ هذا الوضع بعد تأميم الحياة السياسيّة في أعقاب سيطرة الضبّاط الأحرار على الحكم في صيف عام 1952، والإطاحة بالنظام الملكيّ، وفي عام 1953 بموجب قرار حلّ الأحزاب السياسيّة، الّتي اتّهموها بإفساد الحياة السياسيّة، وبسبب الثقافة السياسيّة والثقافة العامّة السائدة الّتي تنفّر من فكرة الأحزاب السياسيّة الّتي يرون أنّها تثير الانقسام في المجتمع بسبب التنافس على السلطة والحكم، وتعلي من شأن المصالح الخاصّ الضيّقة على حساب الصالح العامّ للمجتمع، الوضع الّذي يؤثّر بشدّة على وضع الأحزاب السياسيّة بوصفها المكوّن الرئيس للمجتمع السياسيّ.
علاقة الدولة بالمجتمع: الخصوصية المصرية
لفهم هذه المعضلة الرئيسيّة يتعيّن اتّباع منهج في التحليل يسمح بالبحث عن البنية المستمرّة عبر حقب تاريخيّة ممتدّة وتحليل التراكمات المساندة لتلك البنيّة، وكذلك تحليل التراكمات الداعمة لمحاولات تفكيكها والخروج من هذا الوضع، مع التركيز بشكل أساسيّ على تحليل العلاقة بين الدولة، كمفهوم وترتيبات مؤسّسيّة، وبين المجتمع وديناميكيّة قواه الاجتماعيّة، ودراسة كيف ساهمت التحوّلات الحادّة الّتي لجأت إليها السلطة عبر تاريخها الممتدّ في إطلاق قوى اجتماعيّة، وساهمت أيضًا في نفي التراكمات المصاحبة لذلك، والّتي كان من شأنها تغيير العلاقة لصالح المجتمع، والحفاظ على وضعها. وعلى الرغم من أنّ مصادر السلطة، كمفهوم اجتماعيّ، كامنة في المجتمع أساسًا، إلّا أنّ هناك أنماطًا تاريخيّة تشير إلى تحكّم الدولة في توزيع وإعادة توزيع مصادر السلطة بين القوى الاجتماعيّة، ومن هذه الأنماط ما يعرف بدولة الاستبداد الشرقيّ أو نمط الإنتاج الآسيويّ.
تشير دراسات التاريخ الاقتصاديّ الاجتماعيّ لمصر، إلى أنّ هذا التاريخ متمحور حول السلطة المركزيّة المهيمنة. ويميل قطاع كبير من الدارسين والباحثين، المصريّون والأجانب، إلى إدراج الحالة المصريّة ضمن ما يعرف بنمط الإنتاج الآسيويّ، حسب دراسات المفكّر المصريّ الماركسيّ الراحل أحمد صادق سعد، أو من منظور دولة الاستبداد الشرقيّ، وهو المنظور المهيمن على نظرة الفلاسفة والمفكّرين في أوروبا للعالم الشرقيّ منذ أرسطو وإلى الآن.
رغم اتّفاق المدرستين على أنّ المجتمعات غير الأوروبّيّة، لا سيّما في العالم القديم، آسيا وأفريقيًا، “شعوب مستعبدة من قبل فئة حاكمة مستبدّة، تقيم في المدن المركزيّة”، إلّا أنّ كارل ماركس حاول، من خلال نظريّته الّتي وضعها في كتابه “مساهمة في نقد الاقتصاد السياسيّ” الصادر عام 1850، تقديم تفسير اقتصاديّ اجتماعيّ، لهذا النمط الخاصّ والمتمايز في التنظيم الاجتماعيّ- الاقتصاديّ وفي الحكم، مختلف عن الرؤية السائدة لدى المستشرقين. لا يردّ ماركس هذه الظاهرة لأسباب خاصّة بطبيعة البشر في تلك المجتمعات، وإنّما يردّها إلى نمط التنظيم الاجتماعيّ والسياسيّ شديد المركزيّة، وتوقّع، هو ورفيقه فريدريك إنجلز في دراساتهما للاستعمار، لاسيّما في الهند والجزائر، وإلى حدّ ما في مصر، أن يؤدّي توسّع الرأسماليّة الأوروبّيّة في العالم القديم إلى تفكيك هذه النمط.
في المقابل، يستبعد المستشرقون والمستعربون والمتخصّصون في دراسة المجتمعات العربيّة تفكيك هذا النمط، وأعطى فشل الانتفاضات العربيّة في عام 2011، ونجاح نظم الحكم الاستبداديّة في ترسيخ سلطتها وتثبيت أقدامها، أحيانًا بتأييد شعبيّ واسع النطاق، زخمًا متجدّدًا لفكرة الاستبداد الشرقيّ لدى كثير من الدارسين الغربيّين الّذين رأوا أنّ للأمر صلة بطبائع الشعوب، وأنّه لا فكاك منه. هناك العديد من الدراسات العربيّة الّتي حاولت أيضًا تفسير ظاهرة الاستبداد، بدءًا بدراسة عبد الرحمن الكواكبي الشهيرة “طبائع الاستبداد”، مرورًا بكتاب “كيف تفقد الشعوب المناعة ضدّ الاستبداد” الصادر في عام 2001، والّذي أعدّه فريق عمل استنادًا لـحوارات بين ثلاثة من المثقّفين العرب حول مقالة “العبوديّة المختارة، وكتاب “الربيع العربيّ: ثورات الخلاص من الاستبداد” الصادر في عام 2013 بإشراف الشبكة العربيّة لدراسة الديمقراطيّة، والّذي قدّم دراسة حالات عدّة بلدان عربيّة من بينها مصر، الّتي خصّص لها ثلاث من هذه الدراسات. لقد أثبتت هذه الدراسات جميعًا أنّ المنطقة العربيّة مستثناة من الموجات الديمقراطيّة الّتي اجتاحت العالم، شمالًا وجنوبًا وشرقًا وغربًا. هذه الكتب هي نماذج لتناول مشكلة الاستبداد في العالم العربيّ، واستعصاء التحوّل الديمقراطيّ في مصر والبلدان العربيّة.
الفكرة المحوريّة في الكتاب الأوّل، هي فكرة “العبوديّة المختارة” الّتي تحدّث عنها الفيلسوف والقاضي الفرنسيّ إيتيان دو لا بواسي، في النصف الثاني من القرن السادس عشر، والّتي لم تنشر إلّا في عام 1835، ونشرت أوّل ترجمة عربيّة لها في أحد فصول هذا الكتاب، فيما نشرت دار الساقي ترجمة عربيّة أخرى لهذه الرسالة في عام 2016. الفكرة الرئيسيّة في الرسالة، الّتي تناولت ظاهرة استسلام الجماهير وتمجيد مستبدًّا قد لا يكون موهوبًا، ولا يملك شيئًا من السلطات والقوّة والنفوذ إلّا ما قدّمته تلك الجماهير نفسها له، هي عدم إمكانيّة استعباد أمّة إلّا إذا كان لديها استعداد خفيّ لذلك. جاءت هذه الرسالة في وقت تأسيس الملكيّات المطلقة في أوروبا، وظهور الدولة الّتي وصفها المفكّر الإنجليزيّ توماس هوبز في كتاب “اللفياثان” الصادر في عام 1651، بالوحش. الدولة عن هوبز ضرورة لإنهاء الحرب الأهليّة أو ما أطلق عليه “حرب الجميع ضدّ الجميع”، كآليّة لتنظيم الصراع الاجتماعيّ، وفي خضمّ هذا الصراع، لكن يظلّ المجتمع وفقًا لهوبز ونظريّات العقد الاجتماعيّ الأخرى، الّتي ظهرت لتقديم تفسير حديث ومدنيّ للسلطة بعيدًا عن نظريّات الحقّ الإلهيّ الّتي استند إليها الحكّام لفترة طويلة.
الأمر لم يكن هكذا في التجربة التاريخيّة العربيّة الإسلاميّة، إذ استند مفهوم الدولة بشكل أساسيّ إلى القوّة العسكريّة، أو القوّة القاهرة أو الغالبة، وقدّم عبد الرحمن بن خلدون – مؤسّس علم العمران-، نظريّة تستند إلى مفهوم العصبيّة، لتفسير تعاقب الدول أو قيام الدولة وتحلّلها في سياق تلك الخبرة، والدولة الحديثة في مصر الّتي وضع أسسها محمّد علي، والّتي كانت استجابة لصدمة الحداثة الّتي أفاق عليها المصريّون في أثناء الحملة الفرنسيّة، تعرّضت لمؤثّرات قويّة طعمتها بأنماط في ممارسة الحكم وضعت أسسها في حقبة الاستعمار الإنجليزيّ لمصر الّذي اعتمد بدوره على القوّة العسكريّة، وعلى أجهزة الأمن لإخضاع الشعوب لسلطة الاحتلال. وتتجلّى مأساة اختلال العلاقة بين الدولة الحديثة والمجتمع، بشكل أكبر، في المجتمعات الّتي لا توجد فيها تنظيمات قبليّة أو عشائريّة قويّة توفّر آليّات توازن سلطة الدولة على الفرد. وبالرجوع إلى حقب زمنيّة طويلة وممتدّة، يمكن ملاحظة استمراريّة الآليّة الأساسيّة لنمط الاستبداد الشرقيّ المتمثّلة في قيام الطبقة الحاكمة بمصادرة فائض المجتمع، رغم تغيّر شكل التنظيم الاجتماعيّ مع ظهور الدولة الحديثة، وما أدخلته من إصلاحات سمحت بقدر من التمايز الاجتماعيّ، لكنّ هذا التمايز لا يزال محكومًا إلى حدّ كبير بسياسات الدولة وتوجّهاتها حسبما تشير نظريّات الزبائنيّة السياسيّة.
ورغم من أنّ مشروع الدولة الحديثة أدخل تعديلات على هذه الصيغة، خصوصًا بعد الإصلاحات الّتي أدخلها سعيد باشا (1822 – 1863)، الّذي حكم مصر بين عامي 1854 و1863، خلفًا لعبّاس حلمي الأوّل الّذي تولّى الحكم بعد والده محمّد علي، ومنحت الفلّاحين المصريّين حقًّا تملك الأرض بموجب القانون الّذي أصدره في 5 أغسطس 1858. وألغيت الجزية بموجب هذه القوانين، وجرى خفض مدّة الخدمة العسكريّة إلى عام واحد، الأمر الّذي فتح الباب للتحوّلات الجذريّة الاجتماعيّة والسياسيّة الّتي شهدتها مصر فيما بعد، على الرغم من ميل الحكّام للاستبداد وإخضاع المجتمع لسلطتهم. وفي حين تطوّر النظام السياسيّ في أوروبا نتيجة لنموّ المدن وبروز طبقات اجتماعيّة تمتلك الثروة، وحصلت على مكاسب سياسيّة تمكّنها من مراقبة الإنفاق العامّ مقابل ما يدفعونه من ضرائب، الأمر الّذي زاد قوّة المجتمع في مواجهة الدولة ومؤسّساتها الّتي باتت معتمدة على المجتمع في تمويل نفقاتها، وهو التطوّر الّذي لم يحدث في مصر، إذ ظلّ المجتمع ضعيفًا في مواجهة الدولة وسلطتها، رغم كفاح المصريّين منذ ثورة 1919 من أجل الحكم الدستوريّ الّذي يفرض قيودًا على صلاحيّات الحاكم.
على الرغم من انتقال مصر من النظام الملكيّ إلى النظام الجمهوريّ بعد عام 1952، لم يتغيّر الوضع إنّما جرى تعزيز سلطة الدولة في مواجهة المجتمع بإدخال تغييرات عميقة في نظام الحكم والاقتصاد والمجتمع. ويرى الدارسون المختصّون أنّ الرؤساء اللاحقين لعبد الناصر لم يدخلوا أيّ تغيير على القالب الناصريّ، وإن أدخلوا بعض التغيير على إطار الدولة وعلاقتها بالاقتصاد والمجتمع، ويلاحظ روبرت سبرنجبورج، وهو من أبرز الباحثين الغربيّين المهتمّين بالشأن المصريّ، أنّ الجمهوريّة الجديدة الّتي يتطلّع إليها الرئيس عبد الفتّاح السيسي ستكون أكثر تسلّطيّة، وأنّ هذا يتماشى مع الموجة العالميّة الجديدة الّتي تجنح إلى الشموليّة، المدعوّة بانعدام الثقة السائد على نطاق واسع بين الجمهور في العالم العربيّ في قدرة الديمقراطيّة على تحقيق الاستقرار والرفاه الاقتصاديّ.
تستند هذه الاستمراريّة للنظام السياسيّ غير الديمقراطيّ إلى قاعدة اجتماعيّة محافظة، أطلق دارسو التنمية السياسيّة مصطلح الشريحة الثانية، الّتي تتشكّل أساسًا من طبقات وسطى ريفيّة، وقد أظهرت دراسة أجراها عالم السياسة الأمريكيّ ليونارد بايندر عن مصر، استناد الأحزاب السياسيّة في مصر إلى قاعدة اجتماعيّة يقوم عليها العمل السياسيّ، منذ نشأة التنظيمات السياسيّة منذ نهاية العقد السابع من القرن التاسع عشر قبل الثورة العرابيّة، وأنّ هذه الشريحة أو الطبقة الاجتماعيّة ظلّت مستمرّة بسماتها الأساسيّة إلى اليوم. وهذه الشريحة هي الّتي تعتمد عليها الدولة في ممارسة الحكم، وفي تشكيل الأحزاب السياسيّة الموالية للسلطة، فهي أداة الوساطة الضروريّة الّتي بدونها لا تستطيع الطبقة الحاكمة ممارسة الحكم، أو فرض سلطتها، وتساعد الديناميكيّات الداخليّة وسط هذه الشريحة في ترسيخ نمط الحكم والسلطة القائمين عبر نمط الكفيل والمستفيد. والتغيّر في نوع الكفيل هو الّذي يؤدّي غالبًا إلى تغيّرات شكليّة في نمط ممارسة الحكم، دون أن تغيّر في جوهره التسلّطيّ، والّذي يعني انفراد السلطة الحاكمة في إعادة العوائد والموارد في المجتمع. هذه الشريحة، وإن كانت تشكّل مجتمعًا سياسيًّا قائمًا، إلّا أنّها المسؤول الرئيسيّ غياب السياسة والممارسة السياسيّة؛ ممّا يؤدّي إلى حرمان المجتمع من موارده التنظيميّة والسياسيّة، ويعتمد تطوّر النظام السياسيّ في مصر إلى حدّ كبير على طريقة إدارة هذه السلطة.
إعادة بناء المجتمع السياسي
لكن هل من سبيل لإعادة بناء المجال السياسيّ في مصر بدون إعادة بناء المجتمع السياسيّ؟ هنا تظهر إشكاليّة أخرى لا تقلّ خطورة عن مشكلة انعدام ثقة الجمهور في الديمقراطيّة، تتمثّل هذه الإشكاليّة في انعدام ثقة قطاع واسع من المثقّفين والفاعلين الاجتماعيّين والنشطاء في الأحزاب السياسيّة، بل ذهب بعضهم إلى القول بأنه لا مستقبل للأحزاب السياسيّة، وإنّما المستقبل لمنظّمات المجتمع المدنيّ. أدّى مثل هذا الطرح إلى عدم التمييز بين مفهومي المجتمع والمجتمع السياسيّ، بل ذهب الدكتور سعد الدين إبراهيم، الّذي كان أحد أبرز المنظّرين للمجتمع المدنيّ في مصر العالم العربيّ إلى اعتبار الأحزاب السياسيّة جزءًا من منظّمات المجتمع المدنيّ، وتغاضي بذلك عن أحد الفروق المهمّة بين منظّمات المجتمع المدنيّ، والّتي تشمل النقابات المهنيّة والجمعيّات الأهليّة ومؤسّسات النفع العامّ الخاصّة، وبين الأحزاب السياسيّة، وهو السعي والتنافس من أجل الوصول إلى السلطة، الّذي يعدّ مكوّنًا أساسيًّا من مكوّنات تعريف الحزب السياسيّ. وفي تقديري أنّ هذا الموقف راجع إلى حالة الأحزاب السياسيّة في مصر، وفي غيرها من البلدان العربيّة الّتي فيها تعدّديّة حزبيّة مقيّدة، ويهيمن على السلطة فيها الحزب السياسيّ الّذي شكّلته أو يخضع لهيمنتها، الأمر الّذي دفع أحزابا سياسيّة إلى التخلّي عن التنافس على السلطة على المستويين العمليّ والنظريّ.
لكن في الحقيقة ليست هيمنة السلطة على المجال السياسيّ هي السبب الوحيد للحالة الّتي وجدت عليها الأحزاب السياسيّة في مصر، ذلك أنّ أحد الأسباب الرئيسيّة لضعف الأحزاب السياسيّة بنائيًّا وعدم فاعليّتها السياسيّة، هو افتقارها جميعًا إلى قواعد اجتماعيّة، فهذه الأحزاب لم تتشكّل في الأصل من أجل الدفاع عن مصالح اجتماعيّة محدّدة، بل إنّ اتّهام أحزاب ما قبل يوليو 1952 بأنّها كانت تسعى وراء مصالحها الخاصّة على حساب الصالح العامّ، ضرب فكرة ارتباط السياسيّة بالمصلحة ضربة أصابت الحياة السياسيّة بالشلل، ولم يكن هذا بسبب السلطة الجديدة في مصر فقط، وإنّما كان بسبب ظهور أحزاب تعبّر عن الطبقات الوسطى الصاعدة والمشكلة أساسًا من بيروقراطيّة الدولة الّتي تضخّمت عددًا، وتمكّنت بعد حصول مصر على استقلالها الإسميّ في عام 1922. وتنفر الثقافة السياسيّة السائدة لهذه الطبقة من فكرة الانقسام والخلاف، وتتصوّر أنّ العمل الوطنيّ له طريق واحد ومدرّسة واحدة، وعزّز هذه الثقافة رؤية دينيّة تنفّر في الانقسام والتعدّديّة، وتدعو إلى وحدة الفكر والأهداف والمواقف. وعلى الرغم من قرار حلّ الأحزاب في عام 1953، إلّا أنّ حكّام مصر الجدد اعتمدوا على كوادر من أحزاب مثل مصر الفتاة، الّتي أصبحت حزب مصر الاشتراكيّ، والحزب الوطنيّ القديم، ومن التنظيمات الشيوعيّة واليساريّة وجماعة الإخوان المسلمين بعد تطويعهم، في الحكم وفي تجارب التنظيم السياسيّ الواحد بدءًا من الاتّحاد القوميّ وانتهاء بالاتّحاد الاشتراكيّ العربيّ.
بالتأكيد، ظلّت هناك أحزاب سياسيّة، مثل حزب الوفد وبعض التنظيمات اليساريّة، المنقسمة بطبيعتها في حلقات صغيرة، تقاوم قرار الحلّ معتمدة على قواعد اجتماعيّة متباينة، لكن لم يسمح لهذه الأحزاب، ولا لجماعة الإخوان المسلمين بالتواجد القانونيّ. لكن بعد التحوّل إلى نظام التعدّديّة الحزبيّة في عام 1976، الّذي اعتمد، بالأساس، على تنظيم الاتّحاد الاشتراكيّ، فسمح بوجود ثلاثة منابر تمثّل اليمين واليسار والوسط، وسيطرت السلطة على منبر الوسط، نجح حزب الوفد في العودة إلى الساحة الحزبيّة بموجب حكم صادر من المحكمة في عام 1978، بعد أن رفضت لجنة شؤون الأحزاب الترخيص له، فيما ظلّت الأحزاب الشيوعيّة واليساريّة الرافضة الاندماج في حزب التجمّع الوطنيّ الديمقراطيّ الوحدويّ، الّذي ورث منبر اليسار، وجماعة الإخوان المسلمين محجوبة عن الشرعيّة، حتّى عام 2011، الّذي شهد طفرة في عدد الأحزاب والتنظيمات السياسيّة، إذ تشير التقديرات إلى أكثر من 100 حزب سياسيّ معظمها تشكّل في أعقاب ثورة 25 يناير، إلّا أنّ هذه الأحزاب ظلّت بلا فاعليّة سياسيّة وتأثيرها محدود، وأحد الأسباب الرئيسيّة لذلك هو افتقارها إلى عقيدة سياسيّة واضحة، باستثناء التنظيمات الشيوعيّة والاشتراكيّة واليساريّة وجماعة الإخوان المسلمين، ليس لهذه الأحزاب عقيدة سياسيّة واضحة، كذلك تفتقر هذه الأحزاب إلى آليّات عمل تنظيميّة تتيح لها القيام بمهمّتها الأولى المتمثّلة في بناء الكوادر السياسيّة القادرة على إدارة الشؤون العامّة.
يعاني المشهد الحزبيّ العامّ من التشتّت نتيجة لسياسات الرئيس حسني مبارك الّذي ورث نظامًا حزبيًّا تعدّديًّا القائمة على تفتيت الأحزاب وتشتيتها للحيلولة دون قيام معارضة موحّدة لمواجهته. وأسفرت هذه السياسيّة عن وجود عدد كبير من الأحزاب عديمة الفاعليّة، معظمها ليس سوى لافتة ومقرّ ورئيس للحزب. إنّ تحليل خريطة القوى السياسيّة في مصر قد يكون مفيدًا لتقييم الحالة الراهنة للمجتمع السياسيّ، وتقديم اقتراحات من أجل النهوض بوضعه الّذي قد يتطلّب بالضرورة النهوض بالأحزاب السياسيّة الّتي تشكّل اللبنات الأساسيّة للمجتمع السياسيّ. غير أنّ التحوّلات الاجتماعيّة والثقافيّة الّتي شهدها المجتمع المصريّ منذ السبعينات نتيجة لسياسات الانفتاح الاقتصاديّ ولهجرة العمالة المصريّة لدول الخليج، وما صحب ذلك من مؤثّرات ثقافيّة واجتماعيّة، إلى تغيير قاعدة الشبكات الاجتماعيّة الّتي تعتمد عليها السلطة، الّتي تأثّرت بشدّة بتيّار الإسلام السياسيّ، بشقّه الحديث والمنظّم ممثّلًا في جماعة الإخوان المسلمين أو بشقّه التقليديّ والمحافظ الّذي أصبح أكثر ميلًا للتيّارات السلفيّة بمدارسها المختلفة. والتناقض بين توجّهات النظام السياسيّ المنفتح على الغرب، والّذي يتبنّى سياسات اقتصاديّة واجتماعيّة منفتحة وبين قاعدته السياسيّة التقليديّة الّتي لم يعوّضها تحالفه مع النخبة السياسيّة الناشئة، والّتي كانت تعبيرًا عن بلوغ التناقض الاقتصاديّ-الاجتماعيّ والتناقض السياسيّ في مصر ذروة جديدة يعبّر عنه حالة الاستقطاب السياسيّ الّذي تعانيه الحياة السياسيّة في مصر بين السلطة الّتي تهيمن عليها المؤسّسة العسكريّة من جهة، وبين جماعة الإخوان المسلمين بقواعدها الاجتماعيّة المتشعّبة من جهة ثانية.
تطرح جماعة المسلمين تحدّيًا مزدوجًا للسلطة السياسيّة والأحزاب المدنيّة، الّتي يصنّفها المراقبون الغربيّون بأنّها أحزاب علمانيّة، والأدقّ أنّها أحزاب مرجعيّتها السياسيّة ليست دينيّة، ولا تميل إلى الإفراط في توظيف الدين في خطابها السياسيّ العامّ. وتتمثّل هذه الإشكاليّة في الفاعليّة الّتي تمثّلها جماعة الإخوان من خلال شبكة واسعة لتقديم الدعم الاجتماعيّ في مجالي الصحّة والتعليم، إلى جانب بعض الأشكال الأخرى للدعم الاجتماعيّ، فضلًا عن توظيفها للخطاب الدينيّ وأساليب العمل الدعويّ الأخرى. وأسفرت محاولات دمج الإخوان المسلمين في الحياة السياسيّة بداية من التحالف الانتخابيّ قصير الأجل الّذي نشأ بين الجماعة وبين حزب الوفد الجديد في انتخابات عام 1984، والّذي انفضّ سريعًا لاختلاف التوجّهات والرؤى والأولويّات، ثمّ من خلال تجربة التحالف الإسلاميّ الّذي تشكّل لخوض انتخابات عام 1987، مع حزبي العمل وحزب الأحرار، إلى تمكّن الجماعة من صقل أدواتها السياسيّة وتوسيع دورها على الخريطة الحزبيّة، لكن لم تنشئ حزبها السياسيّ إلّا بعد 2011.
وسرعان ما دخلت الجماعة بعد استثمار وضعها في السيطرة على مجلس الشعب والفوز في انتخابات الرئاسة، في خلاف مع شركائها من أحزاب المعارضة الرئيسيّة الّتي دعمت الجماعة في مواجهة مرشّح محسوب على نظام مبارك، ثمّ دخلت في صدّام مع السلطة أدّى إلى الإطاحة بسلطتها في عام 2013، لتدخل مصر في حياة جديدة في ظلّ رئيس لا يثق كثيرًا في السياسيّة أو السياسيّين وأساليبهم، الأمر الّذي زاد المشهد السياسيّ في مصر تعقيدًا، في ظلّ ممارسات تقييديّة للنشاط السياسيّ والفاعليّة السياسيّة؛ بسبب السياسات الاقتصاديّة الّتي لا تزيد مستويات الاحتقان الاجتماعيّ، وهو وضع يزيد مخاطر الآثار المترتّبة على أيّ انفجارات اجتماعيّة قد تحدث في غيبة السياسة.
إنّ عدم قدرة الحكومة على إصدار مشروع قانون الحكم المحلّيّ الّذي يسمح بانتخاب مجالس محلّيّة منتخبة هو مظهر من مظاهر الأزمة السياسيّة الّتي تعانيها مصر، وتناقضاتها. لكنّ المشكلة الأكبر هي أنّ أطراف هذه الأزمة، وفي مقدّمتهم السلطة السياسيّة، هم جزء من المشكلة، ولا يرغبون في أن يكونوا جزءًا من الحلّ، ولم تسفر تجربة الحوار الوطنيّ الّتي انطلقت قبل عامين عن إحراز أيّ تقدّم في اتّجاه صيغة جديدة من شأنها إعادة بناء المجال السياسيّ، وتلتفّ السلطة على هذا المطلب الضروريّ والملح بمبادرات تفتقر إلى أيّ مقوّمات للتطبيق على نحو يشعر معها السواد الأعظم من المواطنين الساخطين بـجدواها، إلّا كمسكّنات لا يملكون ترف رفضها. إنّ هذا الوضع يتطلّب حوارًا وطنيًّا جديدًا له هيكليّة مختلفة عن هيكليّة الحوار الّتي وضعها مجموعة من التكنوقراط، إنّنا بحاجة إلى حوار وطنيّ سياسيّ، له منطلقات واقعيّة تبحث عن الممكن، ولا تسترسل في رؤى حالمة ومثاليّات مفارقة للواقع. حوار ينتج تفاهمًا عامًّا على ترتيب أولويّات المجتمع وتقييم فعلي للموارد المتاحة والتخطيط لبرامج عمل واقعيّة وقابلة للتنفيذ في حدود تلك الموارد. قد تكون نقطة البدء فتح حوار جادّ حول التصوّر الّذي وضعته أحزاب الحركة المدنيّة المصريّة للخروج من الأزمة، قد يبدأ هذا الحوار بهذه الأحزاب، وقد يكون ممارسة قدر من التقييم المستند إلى التفكير النقديّ فيما قدّمته الأحزاب مقدّمة لا غنى عنها لنجاحه.