رابط التحقيق على موقع صحيفة نيويورك تايمز
الخسائر البشرية للحرب الجوية الأمريكية فى منطقة الشرق الأوسط..بالنص الكامل حرفيا: نص التحقيق الاستقصائى الذى نشرته صحيفة ''نيويورك تايمز'' الأمريكية أعدته الصحفية الاستقصائية ''عزمت خان'' في عددها الصادر أمس الاثنين 25 أبريل 2022 باللغة العربية لإلمام القارئ العربي بجرائم التدخل الأجنبي و مأساة حرية الصحافة في العالم العربي!.
وثائق سريّة وتحقيقات صحفية موسّعة تكشف عن إخفاقات مأساوية وكارثية للحروب التي أدارها الجيش الأمريكي عن بُعد في منطقة الشرق الأوسط.
”لا وجود للمدنيين“في عام 2016، كانت غرب الموصل لا تزال الخيار الأفضل بين عدّة خيارات سيئة مفروضة على عائلة عليّ فتحي زيدان. فقد استولت داعش على المنزل الذي أقامت فيه العائلة زمناً طويلاً في بلدة ”وانا“ على مسافة قريبة من الموصل، ثم استولت عليه قوات البيشمركة الكردية، وفوق كل ذلك كان المنزل يقع على بعد سبعة أميال فقط أسفل سدّ الموصل الآيل للانهيار والذي طالما حذّر المهندسون من أن انهياره سيتسبب في حدوث فيضان يودي بحياة أي شخص في طريقه. تجنبت العائلة مخيمات النازحين داخلياً حيث كانوا سيواجهون دوماً خطر افتراق بعضهم عن بعض، فشقّوا طريقهم بدلاً من ذلك إلى المدينة نحو حي ”اليابسات“ الصناعي. أقامت العائلة في مستودع قسّموه غرفاً منفصلة، وجلبوا خزان مياه، وبنوا مطبخاً وحماماً. فرغم سيطرة داعش على الموصل، لا تزال بعض مناطق المدينة آمنة نسبياً. الآن، أصبح هذا الحي موطناً لهم.
انتشر أفراد العائلة في كل مكان. فابنة عليّ، غزالة، متزوجة من أحد أبناء الحي ويُدعى محمد أحمد عَرَج. وشقيق محمد، عبد العزيز أحمد عَرَج، يعيش في مكان قريب في شقة صغيرة تضيق بساكنيها. أما ابنة عليّ الأخرى فانتقلت إلى شقة في الجهة الأخرى من الموصل مع زوجها وأبنائهما الستة، إلا أن إحدى بناتها - وهي سوسن البالغة من العمر 11 عاماً - كانت تفضّل قضاء الوقت في حي ”اليابسات“ بسبب تعلّقها بجدّيها وحبّها للعب مع أقاربها.
كانت سوسن تقيم مع جدّيها منذ أسبوع عندما اجتمع كل أفراد العائلة لتناول العشاء معاً يوم الخامس من شهر مارس عام 2016. اجتمع على الطاولة في تلك الليلة 21 شخصاً، ولم يكن أيُّ واحد منهم يدري أن الجيش الأمريكي كان يستهدف منطقتهم في تلك اللحظة.
قبل ذلك بأسابيع، كانت عناصر الفرقة ”دلتا فورس“ قد ألقت القبض على عنصر رفيع المستوى في برنامج الأسلحة الكيماوية الآخذ في النمو لتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام ”داعش“. واستناداً إلى المعلومات التي أدلى بها أمام المحققين، توصّل المسؤولون العسكريون إلى مصنع لإنتاج الأسلحة الكيميائية في حي ”اليابسات“. كان المراقبون يرصدون الموقع منذ أسابيع باستخدام طائرات المراقبة.
وفي الثاني من شهر مارس، استعرض المسؤولون العسكريون ما خلصُوا إليه من نتائج للمصادقة عليها، وهي إحدى خطوات عملية ”الاستهداف المدروسة“ المتبعة لدى وزارة الدفاع الأمريكية ”البنتاغون“ والتي تتطلب تدقيقاً على عدة مستويات ومراحل بين قوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة – بعكس قرارات الاستهداف السريعة التي تُتَّخذ في خضم المعركة. وقد أشارت جميع الدلائل إلى أن هذه العملية لديها مقومات الضربة الجيدة، لأن مصدر المعلومات هذه المرة – وخلافاً للعديد من الأهداف الأخرى – على صلةٍ مباشرةٍ بالعدو، فضلاً عن ظهور المواقع المستهدفة بوضوح في فيديو المراقبة.
خلُص المسؤولون العسكريون أيضاً إلى خلّو محيط الهدف من المدنيين. ورغم أن فيديو المراقبة قد رصد 10 أطفال يلعبون بالقرب من المبنى المستهدف، فقد قرر المسؤولون الذين راجعوا الفيديو أن هؤلاء الأطفال لن يتعرضوا لضرر جراء غارة ليلية لأنهم لا يعيشون في تلك المنطقة؛ ومن ثمَّ صُنّفوا بأنهم ”عابرون“ يمرون بالمكان في ساعات النهار فحسب.
لكن وكما وثّق المحققون لاحقاً، عارضت مسؤولة أمريكية هذا الاستنتاج أثناء عملية المصادقة على الهدف، حيث أشارت ”ممثلة“ الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية إلى أن هؤلاء الأطفال وعائلاتهم يعيشون على الأرجح في محيط الهدف أو بالقرب منه. وقالت إنه من المستبعد، في الظروف الحالية، أن يسمح الآباء لأطفالهم بالابتعاد عن المنزل. كانت ترى أن الجزم بأنه ”لا وجود للمدنيين“ في منطقة الهدف هو قرار خاطئ، وأن المصادقة على الغارة قد يسفر عن مقتل هؤلاء الأطفال وآبائهم وعائلاتهم. لكن لم يعتدّ المسؤولون العسكريون برأيها وصرّحوا بشن الغارة.
بعد ثلاثة أيام، وتحديداً في مساء الخامس من شهر مارس، سمع عبد العزيز دويّ انفجارات متتالية قادمة من الاتجاه الذي يقع فيه منزل شقيقه. أراد أن يتبيّن ما حدث، لكنه تريّث قليلاً لأن عمليات القصف تُتبع عادةً بجولة ثانية من إطلاق الصواريخ. ولاحقاً، عندما اقترب من المبنى، رأى ألسنة اللهب والنيران تلتهم ما تبقى من منزل شقيقه. أخبرني عبد العزيز حين قابلته أول مرة، بعد أربع سنوات تقريباً من الغارة: ”سُويّ المبنى بالأرض، ولم يتبق منه سوى الحجارة والدمار. كانت النيران في كل مكان“. عادوا في الفجر ومعهم الأغطية لحمل الجثامين. قال: ”بحثنا عن أقاربنا، وأخذنا نجمع أشلاءهم قطعةً قطعة ونلفّها بالأغطية“.
في الجهة المقابلة من البلدة، سمع علي يونس محمد سلطان، والد سوسن، الأنباء من شقيقه. قُتل كلّ من حضر العشاء في تلك الليلة: زيدان وزوجته نوفة؛ ومحمد عَرَج وغزالة وأبناؤهما الأربعة؛ وابن زيدان حسين وزوجته وأبناؤهما الستة؛ وابن زيدان حسن وزوجته وطفلاهما؛ والابنة سوسن. ذهب عليٌّ وزوجته إلى المستشفى الذي نُقلت إليه أشلاء سوسن.
أخبرني لاحقاً: ”لولا ملابس سوسن، لما تعرفتُ عليها. كانت مجرد أشلاء. تعرّفت عليها من فستانها البنفسجي الذي كنت قد اشتريته لها قبل بضعة أيام. كان مشهداً لا يمكن وصفه. لا أجد كلمات للتعبير عنه. أما زوجتي فلم تكن تدري هل تذهب إلى ابنتها أولاً أم إلى بقية أفراد العائلة. من الصعب جداً أن أصف ما حدث. ما زلنا في حالة إنكار وعدم تصديق. حتى يومنا هذا، لا يمكننا أن نصدق ما حدث. فذلك اليوم غيّر كل شيء في حياتنا“.
”نمط الحياة“
بعد الغارة مباشرةً، أشاد مسؤولو وزارة الدفاع بها باعتبارها إنجازاً استخباراتياً، لكن سرعان ما ظهرت الشكوك. فقد انتشرت على الإنترنت مقاطع فيديو سجّلها تنظيم داعش من داخل المستشفى وموقع الغارة، وتظهر فيها جثث الأطفال المحترقة والملطخة بالدماء. وهكذا بدأت قوات التحالف إجراء مراجعة لتحديد ما إذا كانت الغارة قد أسفرت عن سقوط ضحايا بين المدنيين أم لا.
وتُعد إجراءات المراجعة لدى البنتاغون واحدة من الأدوات القليلة، إن لم تكن الأداة الوحيدة، التي يحاسب بها الجيش الأمريكي نفسه فيما يتعلق بسقوط ضحايا مدنيين جراء حروبه الجوية. وقد أجرت قوات التحالف ما لا يقل عن 2866 تقييماً مشابهاً منذ بداية الحرب الجوية ضد داعش في العراق وسوريا في شهر أغسطس عام 2014، لكن إلى الآن لم يُنشر سوى ما يزيد قليلاً عن عشرة من تقارير هذه التقييمات. وبدلاً من ذلك، ينشر التحالف بقيادة الولايات المتحدة كل شهر تقريراً موجزاً يستعرض فيه الاستنتاجات التي توصل إليها والتي تقتصر عادةً على جملة واحدة لا يُذكر فيها سوى تاريخ الادعاء، والموقع العام للغارة، ونتيجة التقييم: وفيها يقرّر الجيش ما إذا كان الادعاء ”ذا مصداقية“ – بمعنى أن المحققين اعتبروا أنه ”من المرجّح“ أن تكون الغارة قد أسفرت عن سقوط ضحايا مدنيين – أو أنه بلا مصداقية.
وكما أشرت في تحقيقي السابق في صحيفة ” نيويورك تايمز“، فقد حصلتُ على مدار السنوات الثلاثة الماضية على أكثر من 1300 تقييم من تقييمات المصداقية بموجب قانون حرية المعلومات. وتغطي هذه التقارير الادعاءات ذات الصلة بالغارات الجوية التي نُفّذت بين سبتمبر 2014 ويناير 2018. لم يكن ما رأيتُه في هذه التقارير مجرد سلسلة من الأخطاء المأساوية، بل نمطٌ متكررٌ من الحصانة والإفلات من العقاب: من الإخفاق في رصد المدنيين، وفي إجراء التحقيق الميداني، وفي تحديد الأسباب أو الدروس المستفادة، وفي الإقرار بارتكاب مخالفة أو اتخاذ أي إجراء تأديبي قد يحول دون تكرار هذه الأخطاء مجدداً. يبدو أن هذه المنظومة لم توضع لإخفاء حصيلة الضحايا الفعلية للغارات الجوية الأمريكية فحسب وإنما أيضاً لإضفاء شرعية على استخدامها على نطاق واسع.
أشار النقيب بيل اوربان، المتحدث الرسمي باسم القيادة المركزية الأمريكية، إلى أن وزارة الدفاع الأمريكية لم تدّخر جهداً لتتفادى موت الأبرياء، قائلاً: ”تحدث الأخطاء، إما بسبب المعلومات المنقوصة أو التفسير الخاطئ للمعلومات المتاحة. ونحن نحاول التعلّم من هذه الأخطاء“. لكنه اعترض على فكرة أن يكون البنتاغون بمأمن من العقاب، مشيراً إلى أنه ”يتم الحكم على مشروعية الضربة العسكرية في ضوء المعلومات التي كانت متاحةً للقوات المنفذة للغارة وقت اتخاذ القرار بتنفيذها“.
تكشف الوثائق كيف أن هذه المعلومات لم تكن جديرة بالثقة في كثير من الأحيان. فتلك ”الأكياس البيضاء“ التي تحتوي على ”نترات الأمونيوم“ داخل ”مصنع متفجرات بدائية“ كانت في الأغلب أكياس قطن في أحد المحالج. والمبنى الذي افتُرض أنه مقرّ لداعش كان منزلاً يقيم فيه شقيقان وزوجتاهما وأبناؤهما منذ وقت طويل. أما ”الذكر البالغ الذي له صلةٌ بتنظيم داعش“ فكان في حقيقة الأمر ”امرأةٌ مسنّة“. والرجل الذي يحمل سلاحاً ”فوق كتفه الأيسر“ لم يكن يحمل أي أسلحة. والرجال الذين يقودون خمس دراجات نارية ”بسرعة“ ”بمحاذاة بعضهم البعض“ – ويعطون ”انطباعاً“ بشن هجوم وشيك - لم يكونوا سوى أشخاص على متن دراجات نارية. ”الجسم الثقيل“ الذي كان يُجرّ نحو إحدى البنايات كان في واقع الأمر طفلاً.
تكشف الوثائقُ الستار أيضاً عن إجراءات المصادقة على الغارات وتقييمها بعد وقوعها. على سبيل المثال، يشير تقييم البنتاغون لغارة ”اليابسات“ إلى أن أحد المسؤولين الذين راجعوا المعلومات الاستخباراتية، وهي ممثلة الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، قد حذرت من إمكانية سقوط ضحايا مدنيين. رغم ذلك، يشير التقييم إلى أن ”المعلومات الاستخباراتية ذات الصلة بالهدف لم تكشف عن وجود نمط حياة مدني“ في موقع الهدف وأن الفيديو الذي التُقط قبل الغارة لم تكن فيه ”أي إشارة واضحة لنشاط بشري“ في المنطقة. (رفض متحدث باسم الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية التعليق وأحال الأسئلة عن القضية إلى البنتاغون.) وجد التقرير أيضاً أن غارة اليابسات ”امتثلت تماماً“ لقانون الحرب بل ”فعلت أكثر مما كان مطلوباً للتخفيف من الأضرار“ بأن نُفّذت أثناء الليل. وأخيراً، أوصى التقرير بإجراء تحقيق كامل حول ”تحديد الهدف وعملية جمع المعلومات“ المستخدمة لتحديد ”نمط حياة“ المدنيين.
رغم ذلك، لا تكشف الوثائق إلا عن القليل من المعلومات؛ فهي تخبرنا عن الحرب الجوية كما رآها المسؤولون الذين نفّذوها من الجو. ولكي أفهم حقيقة ما حدث، أدركتُ أنه ينبغي عليّ رؤية هذه الحرب من الميدان، وهو موضوع هذه المقالة. فقد قضيتُ السنوات الخمسة الماضية أتنقل بين ساحات الحرب في العراق وسوريا وأفغانستان، محاولةً تكوين صورة واضحة للحملة الجوية على أرض الواقع. وبدايةً من عام 2016، حين كثّفت الولايات المتحدة جهودها ضد داعش، زرتُ مدناً وقرى من بينها الموصل والحويجة والرقة والتوخار. وفي عام 2019، حين شهدت أفغانستان وتيرة غير مسبوقة من الغارات الجوية، كنت ألتقي عائلاتٍ من ولايات هملند وقندهار ونانغرهار ممن أدلوا بشهادتهم حول المداهمات الليلية والغارات الجوية التي بدّدت ولاء المؤيدين للحكومة الأفغانية المحاصرة.
وفي الميدان، وجدتُ نمط حياة يختلف تمام الاختلاف عما وصفه الجيش في تقييمات المصداقية، ووثقتُ أعداداً من القتلى أعلى بكثير مما أقرته القيادة المركزية الأمريكية. أدركتُ أيضاً الصورة القاتمة لما مثّلته الحرب الجوية الأمريكية بتقنياتها الفائقة للمدنيين الذين يعيشون تحتها – أشخاصٌ في سوريا والعراق وأفغانستان يعيلون أسرهم ويكسبون قوت يومهم ويحاولون الابتعاد عن القتال قدر استطاعتهم. اعتادوا رؤية طائرات المراقبة المسيّرة وهي تحوم فوقهم، فكانوا يشعرون بالارتياح لأن هذه الطائرات تعني أن المكان يُرصد جيداً قبل اتخاذ أي إجراء. لكنهم أدركوا أيضاً أنه في بعض الأحيان وبدون سابق إنذار، سوف تشق إحدى القذائف السماء وتستهدف منازلهم لأسباب غير مفهومة وتقتل أفراد أسرهم وجيرانهم في لحظة مروّعة.
كانوا يعرفون أيضاً أنه عندما يحدث ذلك، فمن المستبعد أن يخبرهم أحد بالسبب.
”تكنولوجيا استثنائية“
في العقود الأخيرة، طرأ تحول جذري على أسلوب الحرب الذي تتبعه الولايات المتحدة؛ فبدلاً من إرسال الجنود الأمريكيين إلى ميدان المعركة، أصبحت الحرب تُشنّ باستخدام ترسانة من الطائرات يوجهها أشخاص يجلسون أمام شاشات الكمبيوتر على بعد آلاف الأميال. وبلغ هذا التحول مداه في السنوات الأخيرة من حكم أوباما في ظل التراجع الكبير لشعبية الحروب التي استمرت سنوات وحصدت أرواح أكثر من 6000 جندي أمريكي. أدى تقليل عدد القوات الأمريكية في أرض المعركة إلى تقليل الوفيات بينهم، وتقليل جلسات الاستماع التي يعقدها الكونجرس حول تطورات الحرب، وأيضاً تضاؤل عدد الصحافيين المهتمين بتبعات الحرب على المدنيين. فإذا كانت الولايات المتحدة قادرة على الاستهداف الدقيق وقتل الأشخاص المستهدفين مع مراعاة أقصى درجات الحذر لئلا يلحق ضرر بالآخرين عن طريق الخطأ، فليس هناك ما يشغل بال البعيدين عن ميدان المعركة.
من العراق وسوريا إلى الصومال وأفغانستان، أتاحت الحرب الجوية لقوات التحالف استعادة السيطرة على المناطق التي استولت عليها داعش وطالبان، وكانت غارات الطائرات المسيّرة وسيلة للاشتباك مع تنظيم القاعدة وحركة الشباب المجاهدين وجماعة بوكو حرام في مناطق لم يُعلن رسمياً أنها مناطق حرب. روّج المسؤولون العسكريون لدقة تلك الحملات التي تستند إلى استخبارات دقيقة، ومهارات تكنولوجية فائقة، وإجراءات بيروقراطية موضوعة بعناية، وقدر هائل من ضبط النفس. وبحلول شهر أبريل عام 2016، أعلن البنتاغون أن الغارات الجوية الأمريكية في العراق وسوريا قد قتلت 25000 مقاتل من داعش في حين أسفرت عن مقتل 21 مدنياً فقط. وقال الرئيس باراك أوباما في نفس العام: ”باستخدام ما لدينا من تكنولوجيا استثنائية، ننفذ حالياً الحملة الجوية الأكثر دقة في التاريخ“.
في ذلك الوقت، كنتُ قد انتهيتُ للتو من إجراء تحقيق حول المدارس التي زعمت الحكومة الأمريكية أنها قامت ببنائها في أفغانستان، وأدركتُ أن هناك تبايناً في العادة بين تصريحات المسؤولين وحقيقة الأمر على أرض الواقع. علاوةً على ذلك، بدت أعداد الضحايا المدنيين المعلنة من قوات التحالف غير معقولة، لذا قررتُ أن أذهب بنفسي إلى بعض المناطق التي استهدفتها الغارات الجوية لأبحث عن الحقيقة.
في شهر أغسطس عام 2016، شنت قوات التحالف عدة هجمات على ضاحية القيارة التي تبعد 45 ميلاً جنوب الموصل، لتحررها من سيطرة داعش، وبعدها مباشرةً، لم يقرّ البنتاغون بسقوط أي ضحايا مدنيين. وصلتُ إلى القيارة بعد توقف الغارات بشهر تقريباً. كان الجو حول البلدة لا يزال مليئاً بدخان أسود – فمقاتلو داعش أضرموا النيران في عدد من آبار النفط قبل أن ينسحبوا شمالاً باتجاه الموصل. وفي منتصف القيارة، رأيتُ دماراً هائلاً، حيث أصاب القصف جميع المباني الكبرى ومرافق البنية التحتية الأساسية – مثل الجسور، ومحطات تنقية المياه، ومحطة السكة الحديدية، وسوق الأثاث، والسوق الشعبي. وعند أنقاض ملعب كرة القدم، رأيتُ أطفالاً يلعبون بألواح معدنية كأنها زلاجات. عمّ الدمار المنطقة السكنية أيضاً؛ ففي كل مجمّع سكني عدد من البنايات التي لم يتبق منها سوى الأنقاض.
توقفتُ أمام منزل دمّره القصف لأتحدث مع السكان الذين كانوا يعرفون أهل المنزل. أخبروني أنه منزل عليّ خلفان الوردي وأسرته. عندما كان الجيش العراقي يتقدم نحو القيارة، ترك مقاتلو داعش المنسحبين مخابئ المتفجرات في أماكن متفرقة حول البلدة. وعندما شكّ عليّ أن أحد هذه المخابئ يقع في المنزل المجاور له، أسرع بحزم أمتعة أسرته ليغادروا المنزل، لكنهم لم يتحركوا بالسرعة الكافية. شنت قوات التحالف غارة جوية على المنزل المجاور وهو ما تسبب في انهيار منزل الوردي. أسفرت الغارة عن مقتل ستة مدنيين من بينهم عليّ؛ وابنه قتادة 5 سنوات؛ وابنته إيناس 14 سنة؛ وابنته غفران 18 سنة.
توجهتُ بعدها إلى مواقع تسع غارات أخرى في القيارة. كانت جميعها مناطق سكنية وأخبرني السكان أن الغارات الجوية انهالت عليهم يومياً، خاصةً في وسط المدينة. لم تكن الغارات تتوقف لدرجة أن أفراد العائلة كانوا يتناوبون على النوم تحسباً لحدوث القصف. علمتُ بسقوط ضحايا مدنيين – ما لا يقل عن 29 قتيلاً - في خمسة مواقع على الأقل من المواقع التي زرتُها. وفي كثير من هذه الغارات، كان مقاتلو داعش قد أخلوا المنازل المستهدفة قبل شنّ الغارة.
بدا واضحاً من زيارتي للقيارة أن هناك خللاً كبيراً يعتري الحرب الجوية التي تنفذها قوات التحالف، فتعاونتُ مع أناند جوبال، وهو صحافي ذو خبرة في البحوث الإحصائية، ووضعنا خطة لإجراء تحقيق ميداني منظّم حول الغارات الجوية في القيارة. وفي الشهور التالية، عُدت إلى القيارة عدة مرات لأتحقق من المعلومات التي كانت تصلني. ووسّعت نطاق بحثي ليشمل بلدة الشورة وحي عدن شرق الموصل. حددتُ مواقع الانفجار، وتعلمتُ كيف أفرّق بين الغارات الجوية وغيرها من الهجمات، وأجريتُ لقاءات مع الناجين وذوي الضحايا، وجمعتُ أسماء القتلى وصورهم، وحللتُ صور الأقمار الصناعية، وبحثتُ في مواقع التواصل الاجتماعي. اتسع نطاق بحثنا ليشمل 103 مواقع، وكانت النتائج خطيرة: فواحدة من كلّ خمس غارات خلّفت وراءها قتلى مدنيين وهو معدل أعلى 31 مرة مما زعمته قوات التحالف في ذلك الوقت. علاوةً على ذلك، لم نجد أي أهداف قريبة تابعة لداعش في حوالي نصف الغارات التي أسفرت عن مقتل المدنيين. بدا واضحاً أن تلك الغارات استندت إلى معلومات استخباراتية غير دقيقة أو قديمة. في ذلك الوقت لم تكن لدينا معلومات كافية عن هدف الغارة. تحدثتُ مع مصادر عسكرية وأحياناً مخبرين محليين، لكن قدرتي على فهم المعلومات الاستخباراتية المتاحة قبل الغارة كانت مقيّدة بالمعلومات التي أتلقاها من هذه المصادر.
لكن سرعان ما تكوّنت لديّ صورة أكثر وضوحاً لعملية الاستهداف. ففي إحدى زياراتي، التقيتُ باسم رازو وهو عراقي نجا من غارة شُنَّت عام 2015 على منزله شرق الموصل وأودت بحياة زوجته، وابنته، وشقيقه، وابن شقيقه. كانت الاستخبارات الأمريكية قد حددت منزل رازو على أنه مصنع سيارات مفخخة. قال باسم إنه يحتاج لمعرفة سبب استهداف عائلته بهذه الدقة وتبرئة اسمه أيضاً. وبعد أن سمعتُ قصته، تقدمتُ بطلب بموجب قانون حرية المعلومات للحصول على تقرير تقييم الخسائر البشرية بين المدنيين في هذه الغارة. وللإسراع في تنفيذ الإجراءات، التي تستغرق سنوات في بعض الأحيان، ذكرتُ في طلبي أن هناك خطراً وشيكاً يهدد حياة رازو، لأن الناجين من الغارات الأمريكية قد يصبحون محل اشتباه بأنهم على صلة بالعدو. وفي غضون شهور، حصلتُ على حوالي عشر صفحات حُجبت بعض أجزائها.
كان هذا أول تقرير أطّلع عليه وكانت مفاجأة. لقد صدق حدسي بأن هناك خللاً كبيراً في تلك الحرب. فقد خضعت عائلة رازو للمراقبة لمدة 95 دقيقة فقط على مدار عدة أسابيع قبل التصريح بالغارة وكان الانحياز التأكيدي مستشرياً في تلك الواقعة. فلم يهتم أحدٌ بأنه، حسبما ذكر التقرير، ”لم يُرصد نشاط مشبوه واضح“. أما مُحلل فيديو المراقبة فقد فسّر النشاط المعتاد للأسرة بمنظور تجريمي، فاعتَبر على سبيل المثال أن فتح رازو أو شقيقه لبوابة المنزل لاستقبال أحد الضيوف هو إجراء متبع في مقرات داعش؛ أو أن الغياب الواضح للنساء يؤكد أن المكان تابع لداعش (والحقيقة أن نساء عائلة رازو نادراً ما كنّ يخرجن من المنزل بسبب سيطرة داعش على الموصل آنذاك). من الواضح أنه لم يكن في وسع الأسرة أن تفعل شيئاً لإقناع من يراقبونهم أنهم أبرياء. وفي النهاية، أقرّ التقرير باحتمالية حدوث خلط بين الهدف ومبنى مجاور له. (اشتركتُ أنا وجوبال عام 2017 في كتابة مقالة عن قصة رازو نُشرت في هذه المجلة تحت عنوان ”The Uncounted“).
بعد الاطلاع على تقرير واقعة رازو، تيقنتُ أن هناك الكثير من المعلومات التي لم تُكشف بعد عن إدارة الحرب الجوية. فإذا كانت هذه هي الإجراءات والمعلومات الاستخباراتية التي استندت إليها غارة جوية خُطِّط لها بعناية وخضعت للتدقيق على أعلى المستويات، فكيف يكون الوضع مع المعلومات الاستخباراتية في عشرات الآلاف من الغارات الأخرى التي نُفّذ أغلبها على نحو أسرع من ذلك؟ بدأتُ في تقديم طلبات للحصول على تقارير تقييم المصداقية لآلاف الغارات الأخرى التي قيل إنها تسببت في مقتل مدنيين.
”كنا نحن الضحيّة“
بينما كنت أنتظر البتّ في تلك الطلبات، عدتُ مرةً أخرى إلى العراق. كان رازو وعائلته يعيشون في الجزء الشرقي من الموصل. في مطلع عام 2018، عدتُ للتحقيق في غارات الجزء الغربي من المدينة. أردتُ تفقّد المدينة القديمة غرب الموصل مثلما فعلتُ في شرق المدينة. كانت خطتي أن أتنقل من باب إلى آخر أتحدث مع السكان وأوثق كل منطقة أعثر عليها من المناطق المتأثرة بالغارات، لكني لم أجد أبواباً أطرقها في المدينة القديمة. فأغلب المنطقة أصبح أنقاضاً. ولإفساح الطريق أمام السيارات، استعان السكان بمعدات ثقيلة لرفع الأنقاض وحطام المنازل بل وبعض أشلاء القتلى ووضعها على جانبي الطريق.
وبالقرب من جامع النوري الكبير، صادفتُ مقبرةً مؤقتة. فمع احتدام الحرب، اضطرت العائلات لدفن ذويها بسرعة في هذا المكان وتمييز القبور باستخدام الصخور أملاً في العودة إليهم ودفنهم دفناً لائقاً عندما تهدأ الأوضاع. تجمّع عدد من الرجال، فسألتُهم عن الثمن الذي دفعوه للتحرر من داعش. تقدّم أحدهم، ويُدعى مُضَر عبد القادر، ليشاركني رأيه. عاش مُضَر حياته بالكامل في الموصل وكان ناقماً على ما حدث في مسقط رأسه. قال لي: ”كنا نحن الضحيّة. دفعنا الثمن بأجسادنا“.
وكما هو الحال مع عبد القادر، رفض كثير من السكان الذين التقيتُهم في تلك الجهة من المدينة أن يسمّوا ما حدث تحريراً، فهم يرون أن الحكومة في بغداد وشركاءها الأمريكيين اتخذوا قراراً متعمّداً بمعاقبة الموصل وسكانها. ودليلهم على ذلك أنه في كل هجوم كبير ضد داعش، من الرمادي إلى الفلوجة، كانت قوات التحالف تترك للمقاتلين فرصة الانسحاب، وهو ما يسهّل عملية التمييز بين المدنيين والمقاتلين. ولذا، عندما حاصرت قوات التحالف مواقع داعش غرب الموصل عام 2017، ظنّ الجميع أن هذا ما سيحدث، لكنهم كانوا مخطئين. هذه المرة، لم يكن هناك مهرب ولا ممر للوصول إلى سوريا. إنها نهاية الطريق. أحاطت القوات العراقية والميليشيات بالموصل وأغلقت جميع المخارج وحاصرت المدنيين مع المقاتلين وهم يخوضون آخر معاركهم. ولمّا وجد مقاتلو داعش أنفسهم أمام قوة جوية مهولة وهزيمة مؤكدة، احتجزوا أعداداً كبيرة من الرهائن المدنيين. وعندما انهمرت قذائف التحالف وقنابله، أخذت تحصد الأرواح بلا تمييز.
انتشرت الأنباء بأن الغارات التي شنتها قوات التحالف لطرد داعش من المدينة قد أسفرت عن سقوط قتلى من المدنيين. أراد عبد القادر أن يُريني آثار الدمار الناجم عن إحدى هذه الغارات حيث دمّرت منزل طارق خليل إبراهيم سنجاري وعائلته في شهر أبريل عام 2017. لم يكن المنزل يبعد سوى أمتار قليلة، لكننا استغرقنا 30 دقيقة نتسلق الأنقاض حتى وصلنا إلى موقع الانفجار. كان الحطام يحيط بالمنزل على ارتفاع كبير حتى بدا وكأننا نطلّ على سرداب.
وعلى مدار الشهور القليلة التالية، أجريتُ عدة مقابلات مع السكان الذين عاشوا في هذا البيت وفي المنطقة، ومن خلال هذه المقابلات تكوّنت لديّ صورة مبدئية عما حدث. فقد استأجرت عائلة سنجاري هذا المنزل بعد أن دُمّر منزلهم في الحرب. وفي ليلة الغارة، كان هناك 27 شخصاً نائمين في خمس غرف بالمنزل. بعد الساعة 12:30 صباحاً بقليل، استيقظ الابن عماد طارق خليل إبراهيم عاجزاً عن التنفس وأدرك أن جزءاً من جسده مدفون تحت الحجارة. وبعد أن تمكن من إزاحتها بعيداً، عثر على زوجته وابنيه، ثم سمع صوتاً فبدأ يبحث عن ناجين آخرين. كان النصف السفلي من جسد شقيقه محمود طارق خليل عالقاً أسفل كتلة خرسانية وقضبان فولاذية. قال عماد بنبرة هادئة: ”لا يمكنني أن أصف أصوات أنينه. أخذت أعانقه وأقبّل جبهته. قلت له: ‘لا تقلق، ستكونُ بخير. سوف ننقذك.’ لكنه لم يقل شيئاً. كان يتأوه فحسب“.
جاء الجيران للمساعدة وقضوا أكثر من ثلاث ساعات يحاولون إخراج محمود والآخرين، لكن الكتلة الخرسانية كانت ثقيلة لا تتزحزح من مكانها. شعر عماد بتباطؤ نبض محمود وانخفاض حرارة جسمه، ففهم ما يحدث. قبّل شقيقه ودعا له ثم غادر الغرفة.
استخدم الجيران مطرقة حَفر وأداة لقطع المعادن ورافعة سيارة وظلوا حتى الساعة الواحدة ظهراً يحاولون إنقاذ الناجين وانتشال الجثث. بعدها توجهوا إلى دفن القتلى البالغ عددهم سبعة. عندما تحدثتُ مع عماد بعد مرور عام على الغارة، لم يكن يستوعب ما حدث. أخبرني أن الأسرة سمعت أزيز الطائرات فوق رؤوسهم لمدة ”24 ساعة في اليوم“. فما الذي كانت تفعله هذه الطائرات إذا لم تكن ترسل المعلومات عن وجود عشرات المدنيين في المنزل؟ قال إن مقاتلي داعش احتلوا المنزل المجاور لمنزلهم فترة قصيرة، لكنهم غادروه قبل الغارة بثلاثة أو أربعة أسابيع. يبدو أن ذلك المنزل لم يُصب في الغارة.
قال عماد: ”أكثر ما يهمّني الآن أن أساعد في ألا يتكرر ما حدث لأسرتي مع شخص آخر. هل يمكنكِ كشف الحقيقة عن سبب استهداف هذا المنزل“.
”تحليل ما بعد الغارة“
كان الكشف عن الحقيقة مهمة شبه مستعصية من دون الوثائق. وبحلول شهر يونيو عام 2018، رفضت القيادة المركزية تسريع الإجراءات لجميع الطلبات التي تقدمتُ بها. وعليه رفعتُ دعوى قضائية بمساعدة محامين من ”لجنة مراسلين من أجل حرية الصحافة“ (RCFP). وفي بداية شهر أكتوبر، استلمتُ أول دفعة من التقارير من بينها وثائق حول 35 غارة في العراق خلُص تقييم البنتاغون لها إلى أنها أسفرت عن سقوط قتلى بين صفوف المدنيين.
طبعتُ أكثر من 300 صفحة من هذه التقارير وبدأت أضع عليها الأسئلة التي سأوجهها للمصادر العسكرية. كانت التقييمات تعجّ باختصارات ولغة الجيش، وازداد غموضها بسبب الحجب المتكرر للمعلومات. لكن مثلما حدث مع الوثيقة الأولى التي حصلتُ عليها حول الغارة على منزل باسم رازو، تضمنت هذه الوثائق الكثير من المعلومات التي تكشف عن طبيعة الحرب الجوية الأمريكية.
في أحد التقييمات المقلقة بشكل خاص، وجدتُ تسجيلاً لمحادثة بين أفراد الجيش أثناء تنفيذهم إحدى الغارات في الموصل. كانوا يتحدثون عن الغارة وكأنهم يشاركون في لعبة فيديو. قال أحدهم إن المنطقة تعجُّ بالأهداف، ومع انتهاء المحادثة أدركوا أنهم ربما رأوا أطفالاً. وهناك تقرير آخر عن غارة قرّر المسؤولون عن تنفيذها إطلاق قذائف أكبر بكثير من حجم الهدف حتى يحتفظوا بالقذائف الأصغر للاستخدام لاحقاً. وقد أدى الانفجار الناجم عن الضربة إلى تدمير سيارتين مدنيتين إلى جانب سيارة داعش المستهدفة.
زادت الصورة وضوحاً لا سيما عند قراءة هذه الوثائق جنباً إلى جنب مع التحقيق الميداني المستقل الذي غاب عن تقييمات المصداقية. فبينما كنت أتصفح الوثائق، لاحظتُ أن جميع التحقيقات تخلو من أي مقابلات كالتي أجريها مع المدنيين. وأقربُ ما وجدتُه لتلك المقابلات كان وصفاً في إحدى الوثائق لمقابلة أجرتها قوات العمليات الخاصة مع مدنيين فرّوا قبل فترة قصيرة من منطقة تسيطر عليها داعش. كان واضحاً أن الغرض من طرح الأسئلة على المدنيين هو تحديد الأهداف المحتملة لداعش لشن هجوم عليها، وليس جمع المعلومات حول الضحايا المدنيين. رغم ذلك، واغتناماً لهذه الفرصة، تحدّث سكان المخيم عن الغارة الجوية التي تسببت في مقتل جيرانهم.
ربما يفسر هذا التباين بين الوثائق والواقع على الأرض انخفاض أعداد الضحايا المدنيين التي أقرتها القيادة المركزية عن الأعداد التي وثقتُها. وأحد الأمثلة على ذلك ما كشفته زيارتي إلى قرية التوخار السورية أواخر عام 2018، وهو المكان الذي قيل إنه شهد أكبر واقعة لسقوط ضحايا مدنيين في الحرب. زعم البنتاغون أن الغارة على قرية التوخار عام 2016 تسببت في مقتل 24 مدنياً، لكن بعض التقديرات تشير إلى ما يزيد عن 200 مدني، وهو ما يجعل حصيلة القتلى الناجمة عن غارة التوخار أكبر من حصيلة القتلى في أي غارة أخرى شنتها قوات التحالف أثناء الحرب.
قضيتُ شهوراً أحاول إقناع الحكومة التركية بمنحي تصريحاً لعبور الحدود حتى أتمكن من الذهاب إلى قرية التوخار في سوريا. وبعد الحصول على التصريح، غادرنا ”غازي عنتاب“ وعبرنا الحدود إلى سوريا ثم انطلقنا بالسيارة جنوباً حتى وصلنا إلى التوخار في الظهيرة. تذكَّر كل من تحدثنا معهم الواقعة. قالوا إنه مع احتدام القتال بين قوات سوريا الديموقراطية وتنظيم داعش، توجه نحو 200 شخص ممن يعيشون بالقرب من خط القتال إلى أطراف القرية واحتموا داخل أربعة منازل في مكان بعيد عن القتال، حيث اعتقدوا أنهم بمأمن في هذا المكان الذي لم تقترب منه قوات داعش.
لكن في يوم التاسع عشر من يوليو، شنّت قوات التحالف سلسلة من الغارات على المنطقة. كتبتُ أسماء الأشخاص الذين لقوا حتفهم في المنازل الأربعة، وتأكدتُ من صحة التفاصيل من خلال المعلومات المتاحة علناً والصحفيين المحليين وغيرهم. ووفقاً للعدد الذي رصدتُه في مقابلاتي مع الناجين، والذي تحققتُ منه على مدار الأشهر التالية، لقي أكثر من 120 شخصاً مصرعهم في غارة التوخار. وكشفت مقابلاتي مع الناجين عن تفاصيل مروعة، إذ أصيب العشرات بإصابات مسببة للعجز. أخبرني بعض الناجين أن الكثير من سكان القرية قُتلوا في تلك الليلة لدرجة أنه لم يكن هناك عدد كاف من الشباب لاستخراج الجثامين من بين الأنقاض. استغرق استخراج الجثامين نحو أسبوعين، ولم يُعثر على بعض القتلى قط.
عندما عدتُ إلى ”غازي عنتاب“ تلك الليلة وتفقدتُ بريدي الإلكتروني، وجدتُ تقييم المصداقية بشأن غارة التوخار بانتظاري. ورغم إجراء تحقيق كامل حول الواقعة، لم تصلني سوى صفحة واحدة إلى جانب صفحة الغلاف التي تضم المعلومات الأساسية. كانت إحدى فرق العمليات الخاصة – عرفتُ لاحقاً من مصدر آخر أنها ”فرقة العمل 9“ – قد دعت إلى تنفيذ غارة سريعة في شمال سوريا، حيث تلقى أفراد الفرقة أنباءً تفيد بأن مقاتلي داعش يتنقلون في مناطق ”خالية من المدنيين“، فاستنتجوا أن المقاتلين يحشدون لهجوم مضاد على قوات سوريا الديموقراطية. دمرت ”فرقة العمل 9“ ثلاث ”مناطق حشد“ وخمس سيارات. كانوا واثقين أن الغارة أودت بحياة 85 مقاتلاً من داعش، لكن فريق التقييم توصل لاحقاً إلى أن نحو 7 إلى 24 مدنياً ”ربما اختلطوا“ بمقاتلي داعش. وبعد عامين عندما وصلتني صفحات أخرى حُجب أغلبها من نفس التقرير، علمتُ أن الأساس الذي استند إليه هذ الحُكم هو ”تحليل ما بعد الغارة“ و ”تقارير مصدرها قوات سوريا الديموقراطية“.
وبسبب هذا التباين بين ما رأيتُه في قرية التوخار وما قرأتُه في التقرير الرسمي للبنتاغون، أدركتُ أنه ينبغي عليّ أن أتعامل بشك مع الوثائق التي أجمعها وأن أستكملها بالتغطية الميدانية قدر المستطاع. وخلال رحلاتي إلى العراق وسوريا وأفغانستان، تقدمتُ بطلبات للحصول على المزيد من التقييمات بينما أحلل الوثائق التي تصلني باستمرار كل شهرين تقريباً. ورغم أني كنت أستطيع نشر هذه الوثائق أثناء انتظار غيرها، فإن تحرّي الإنصاف فرض عليّ أن أتفقد عدداً أكبر من الغارات على أرض الواقع. فالوثيقة العسكرية وحدها تجعلك ترى الصورة كما رآها الجيش من الجو، وقد تعلّمت من تحقيقي في الحرب الجوية الأمريكية على مدار سنوات أنه من الخطر الاكتفاء بهذه الصورة.
”إنّا لله وإنّا إليه راجعون“
مع انتشار الجائحة في ربيع عام 2020، اضطررت إلى وقف التحقيق الذي أجريه في العراق، وقضيت تلك الفترة في تجميع وتحليل الوثائق التي حصلت عليها. استعنتُ بباحثَين مساعدَين هما ليلى حسن وجيف باروت، طلابي السابقين في مادة تغطية النزاعات في كلية كولومبيا للصحافة، وذلك لمساعدتي في بناء قاعدة البيانات. ومعاً وضعنا خطة لاستئناف التحقيقات فور رفع القيود المفروضة على السفر. في ذلك الوقت، كنت أفهم التقييمات التي أقرؤها فهماً أفضل وكان لديّ الكثير من الوثائق. تقدّمتُ بطلبات أخرى بموجب قانون حرية المعلومات، وكانت هذه الطلبات تتحرك في المسار الإجرائي المعتاد. بدأتُ أتلقى آلاف الصفحات من الوثائق، بوتيرة تفوق قدرة أي شخص على التعامل معها.
وبنهاية عام 2020، تلقيتُ معلومة جديدة ستفيد تحقيقاتي في الميدان. فبعد سنوات من المفاوضات، زوّد الجيش الأمريكي أخيراً مجموعة Airwars، وهي منظمة بريطانية غير ربحية، بالإحداثيات العسكرية لمواقع الغارات التي أقرّ بسقوط ضحايا مدنيين فيها. فحتى ذلك الحين، كان من الصعب أن أحدد بدقة مكان غارة مذكورة في البيانات الصحفية للبنتاغون أو في تقييمات المصداقية. عادةً ما تشير تلك البيانات إلى وقوع غارة ”قرب الموصل“ وهي معلومة لا فائدة منها. وحتى بعد أن بدأتُ استلام الوثائق، كان الموقع الدقيق للغارة محجوباً دائماً، وهو ما حدث أيضاً مع معظم الخرائط أو الصور التي يمكن أن تساعدني في تحديد الموقع. والآن بفضل مجموعة Airwars، أصبح لديّ الإحداثيات التي يُفترض أنها دقيقة في نطاق 100 متر. بهذه البيانات، يمكنني أن أذهب إلى مكان أعلم أنه شهد حدوث غارة جوية وأبدأ بطرح الأسئلة.
في الوقت الذي تلقيتُ فيه الجرعة الثانية من لقاح كوفيد، كنتُ قد وضعتُ منهجية لتنفيذ ذلك. فقبل زيارة أي موقع من المواقع التي أكّد الجيش مقتل المدنيين فيها، كنت أحلّل الوثائق لمعرفة التفاصيل الأساسية عن الادعاء، مثل المعلومات الاستخباراتية، والاستنتاج الذي خلُص إليه الجيش، وكيف تمت الموافقة على الضربة، وما الذي رصده الفيديو، والمحادثات والتقارير، وتقديرات الضحايا وغيرها. بعدها، أبحث عن الإحداثيات التي كشف عنها الجيش، وأحلل الموقع باستخدام صور الأقمار الصناعية قبل تاريخ الغارة وبعدها، لأرصد أي مناطق متأثرة وأحدد ما إذا كان هناك شيء يتطابق مع وصف الهدف في الوثيقة، أو إذا كانت الإحداثيات غير دقيقة.
قررتُ أن أبدأ بالموصل. أردتُ أن أفحص عدداً كبيراً من المواقع وهو ما سيستغرق وقتاً طويلاً. كنتُ قد كونتُ شبكة علاقات في المدينة تجعلني أعمل هناك بأمان لعدة شهور. ولأستعدّ لزيارتي، استعنتُ بطالبين من قسم الترجمة في جامعة الموصل هما مؤمن مهند وزينب الفخري ودرّبتهما على الأدوات الأساسية للصحافة الاستقصائية.
تشير السجلات إلى أن هناك 90 واقعة تأكّد فيها سقوط ضحايا مدنيين في الموصل والمناطق المحيطة بها. كنتُ قد زرتُ بعض هذه المناطق من قبل، لكني لم أزر الكثير منها بعد. بدأنا بدراسة كل منطقة من مناطق الغارات باستخدام أدوات رسم الخرائط المعتمدة على المصادر الجماعية المحلية حتى نتمكن من فهم المنطقة وبنيتها التحتية فهماً أفضل. كما تحققنا من المعلومات المتداولة علناً عن الواقعة، كالمصادر التي وثقتها مجموعة Airwars، وأجرينا بحثنا الخاص للوصول إلى مواد أخرى مثل مقاطع الفيديو الدعائية التي كانت تبثها داعش لتوثيق الوضع عقب الانفجار. (اعتُبرت مقاطع الفيديو التي تبثها داعش موثوقة إلى حد كبير في رصدها لأعداد الضحايا المدنيين، حتى من قبل المجموعات المعارضة لداعش). حققنا كذلك في مقاطع الفيديو التي سجلتها قوات التحالف للتفجيرات للبحث عن أي تطابق محتمل. واستخدمنا موقع الأرشيف الرقمي ”Wayback Machine“ ومواقع أرشفة رقمية أخرى للبحث عن أي مواد لم تعد متاحة في مكان آخر على الإنترنت. وضعتُ كل تلك المواد التي جمّعتها في تطبيق إلكتروني لأتمكن من الوصول إليها عن طريق هاتفي أثناء وجودي في الميدان.
وفي مطلع شهر مايو وصلتُ إلى الموصل وبدأتُ زيارة مواقع الغارات مع مؤمن وأحد خبراء الأمن المحليين. وعلى مدار الشهرين التاليين، تحققت من 50 موقعاً هناك. كنا نبدأ كل مرة بإحداثيات الموقع الرسمية المعلنة من الجيش – حتى وإن دلّ مضمون الوثيقة أو تحليل الصور على احتمالية خطأ هذه الإحداثيات. في بعض الحالات، كنت أستنتج أن الإحداثيات غير دقيقة، لكني كنت أصل إلى الموقع الفعلي للغارة اعتماداً على التفاصيل الأخرى في الوثيقة أو من خلال البحث الميداني. ومن بين 50 موقعاً زرتها في الموصل، استطعتُ تأكيد تفاصيل الواقعة وتحديد الناجين أو شهود العيان في 27 موقعاً.
عند الوصول إلى مكان الإحداثيات، كنت أحاول البحث عن الموقع الذي استهدفته الغارة. كنت أقدّم نفسي للأشخاص القريبين من المكان وأسألهم إذا كانت لديهم أي معلومات عما حدث، وهو ما يتوقف على ما إذا كانوا قد عاشوا في المنطقة خلال الفترة الزمنية المذكورة. أدركتُ أن ما يخبرني به الناس قد لا يكون صحيحاً، إما لأن الأحداث التبست عليهم أو لأنهم لا يقولون الحقيقة، ولذلك بذلت قصارى جهدي لأتفادى المعلومات الخاطئة. وقد فعلتُ ذلك بطرق شتّى. فرغم أني أصل إلى المكان ولديّ صورة واضحة عما حدث وفقاً لرواية الجيش، كنت أحتفظ بتلك الصورة لنفسي وأحاول جاهدةً ألا أطرح أسئلةً توحي بالجواب. كنت أيضاً ألتمس وجهات النظر المختلفة من شهود العيان. لم أكن أصرّح بخبر الزيارة قبل موعدها، حتى لا يرتّب أحد للمقابلات أو يتفقّد المكان قبل الزيارة. في بعض الأحيان، كنت أجد الكثير من المعلومات التي أدلى بها شهود عيان في مواد علنية المصدر فأطلع عليها مسبقاً، لكني حرصتُ على عدم التواصل مع أي شخص عبر فيسبوك أو تويتر قبل وصولي للموقع لأن ذلك قد يتسبب في لفت الأنظار للزيارة وربما التحيز في العمل. كان التلاعب بالأدلة ومواءمة الروايات أمراً وارداً، لذلك فإن مقابلة الناس دون سابق تخطيط سيضمن حصولي على شهادات بالغة المصداقية.
كان وقت وصولي للموقع يختلف باختلاف المنطقة. فإذا كان سكان المنطقة من الطبقة العاملة، يمكنني الذهاب في الصباح والعثور على أشخاص هنا وهناك. أما في المناطق السكنية الأكثر ثراءً، تكون الشوارع خالية من المارة ولا يستجيب أحد لقرع أجراس البيوت. كان أصحاب المحلات والعمال يتذكرون بسهولة التفاصيل الأساسية، لكن دون تذكر التواريخ المحددة للواقعة. كنتُ أحدد النطاق الزمني بحسب الأحداث المعروفة – على سبيل المثال ”عيد الأضحى عام 2017“، أو ”قبل تحرير هذه المنطقة بأسبوعين“، أو ”عقب تدمير داعش لقبر النبي يونس“. وبعد تكوين فكرة عما حدث، أبدأ بتضييق نطاق الاحتمالات. حرصتُ أيضاً على عدم طرح أسئلة محددة وأن أترك التفاصيل تتأكد بشكل تلقائي. على سبيل المثال، بدلاً من أن أسأل: ”هل قُتل هنا رجل كان يدفع عربة“.، كنت أتساءل عن المبنى المجاور وهل تأثر بالانفجار أم لا.
في بعض الأحيان، كان الأشخاص الذين أحاورهم يصفون بدقة التفاصيل التي ذكر التقرير أن المحللين رصدوها في الفيديو – وهي تفاصيل لم تظهر قط على مواقع التواصل الاجتماعي. على سبيل المثال، تذكّر رجل في الموصل مشهداً محدداً للغاية حين سقط صاروخ في الجهة المقابلة في الشارع لكنه أخطأ في إصابة شخص من داعش كان جالساً على كرسي متحرك، فأعقبه صاروخ ثان أصابه مباشرةً وهو يحاول أن يلوذ بالفرار، وأصاب أطفالاً كانوا يركضون خارج منازلهم. لم أكن قد سألته عن الكرسي المتحرك، لكن روايته الدقيقة شجعتني أن أطلب منه الجلوس للحديث عن المزيد عن الواقعة.
لم تكن الموافقة على إجراء الحوار قاصرةً على سؤال الأشخاص عما إذا كانت لديهم الرغبة في إجراء هذا الحوار أو اقتباس كلامهم أم لا، بل كنت أشرح لهم أغراضي من البحث وأخبرهم بالتحديد أين يمكن أن تُنشر كلماتهم أو وجوههم أو أصواتهم. أخبرتهم عن هدفي بأن أُطلع الشعب الأمريكي على تبعات الحروب الأمريكية. وافق الكثيرون منهم على المساعدة، فكانوا يدعونني على الفور إلى بيوتهم حيث يمكن أن تستمر اللقاءات معهم عدة ساعات. كنت أعطي الأولوية لمن هم على معرفة مباشرة بالواقعة مثل شهود العيان أو أفراد العائلة. لكنهم لم يرغبوا بالحديث أحياناً. كانوا يقولون إن النسيان أفضل وتلك مشيئة الله، وكثيراً ما سمعتهم يرددون: ”إنا لله وإنا إليه راجعون“.
سأل بعض الناجين عن التعويضات التي يدفعها الجيش الأمريكي للضحايا وعما إذا كان حديثهم معي سيجدي نفعاً. كنت أوضح لهم بشكل قاطع قبل اللقاءات أني صحافية فحسب ولا أعمل في مجال الإغاثة ولا أمثل أي منظمة غير حكومية. أوضحت لهم أني لا أستطيع الدفاع عنهم، لكن يمكنني نشر رواياتهم وأن أضيف بيانات الاتصال بهم – إذا أرادوا – في مراسلاتي مع الجيش الأمريكي. فعلى حد علمي لم يتصل أي مسؤول عن تقييم الضحايا المدنيين بهم قط.
”جسم ثقيل مجهول الهوية“
بعد أسبوعين من وصولي إلى العراق، قادتني الإحداثيات إلى تقاطع في حي الزنجيلي في الموصل. وبحسب الوثائق، رصد المسؤولون العسكريون في هذا المكان عام 2017 مقاتلين من داعش يطلقون طائرات مراقبة مسيّرة صغيرة من فوق مبنى منخفض. لم ير المسؤولون مدنيين أو أشخاصاً يسيرون في الشارع قبل إطلاق القذيفة، لكن قبل لحظة القصف مباشرةً ”شوهد مدنيّان قادمان من شارع مجاور نحو منطقة الخطر“ كما شوهدت ”شاحنة صغيرة“ تتحرك باتجاه الهدف.
خلُص التقييم إلى مقتل اثنين من المشاة، لكنه لم يشر إلى أي ضحايا آخرين من المدنيين. عندما وصلتُ إلى حي الزنجيلي، سألتُ بعض الأشخاص الواقفين بجوار أحد الجدران إذا كانوا يعرفون شيئاً عن أي غارات جوية وقعت في هذه المنطقة. أشاروا إلى المبنى المقابل لنا وقالوا إن مقاتلي داعش طردوا إحدى العائلات واحتلوا منزلاً من طابقين من المنازل الثلاثة هناك. وعلى مدار ثلاثة أيام، كانوا يأتون إلى المنزل ويطلقون الطائرات المسيّرة كأنها حمامٌ زاجل. انبهر الأطفال بتلك الأجهزة الصغيرة فكانوا يتجمعون لمشاهدتها وهي تحلق في السماء. وفي اليوم الثالث، قُصف المبنى.
أصيب أحد هؤلاء الأشخاص، ويُدعى ماهر محمود، جراء الانفجار. أخبرني أنه كان يسير بجوار المنزل في طريقه لرؤية صديق يبيع السجائر في الخفاء عندما سقطت القذيفة. كان الانفجار كبيراً، وشعر ماهر بشظية تخترق رأسه من الخلف، لكنه أدرك أن انفجاراً ثانياً سيحدث، لذا ركض إلى طريق قريب واختبأ تحت شاحنة صغيرة. كان الانفجار الثاني أكبر بكثير من الأول. في رأيه، لو أن شخصاً نجا من الانفجار الأول، فمن المستحيل أن يكون قد نجا من الثاني.
ومع استمراري في طرح الأسئلة، وجدت الكثير من الأشخاص ممن لديهم تفاصيل يودّون مشاركتها عما حدث في تلك الغارة. ذكروا لي أسماء القتلى والمصابين، وبعضهم خلع ملابسه ليريني إصابته. تجمّع الأهالي حول جهاز الكمبيوتر الخاص بي في غرفة الضيوف في أحد المنازل، وشاهدنا الفيديو الذي أعدّه تنظيم داعش عن الدمار الناجم عن القصف – وهو فيديو لم يُذكر قط في تقييم الجيش الأمريكي – وطلبت المساعدة في تأكيد هوية جميع الأشخاص الذين ظهروا فيه. كانت المشاهد مروعة؛ أطفال يحملون حقائب الظهر، وجثث يصعب التعرف عليها، وفتاة صغيرة مذعورة ذات عينين بنّيتين واسعتين في المستشفى. أخبرني أحدهم أن الفتاة اسمها أسيل وأن والدها قُتل في الهجوم وأصيبت ساقها، وأنها تعيش الآن مع أمّها في حي الهرمات في ضواحي المدينة.
عندما وصلنا إلى المنزل، وجدنا عدداً كبيراً من الأطفال في الخارج. كان المنزل مطلياً من الداخل باللون الوردي. تبدو أسيل الآن أكبر عمراً؛ خجولة لكنها تبتسم. أذنت لنا الأم بتصوير الندبة الغائرة في ساقها اليسرى. أخبرتني أنها وجدت نفسها بعد الغارة عالقة خلف باب موصد في غرفة المعيشة، وأنها عندما فتحت الباب أخيراً، سمعت أبناءها يصرخون. قالت: ”أخذت أبنائي الثلاثة وركضت خارج البيت. كان اثنان منهما مصابين“.
استغرق توثيق ضحايا هذه الغارة عدة أيام حصرنا خلالها عشرة قتلى وسبعة مصابين. قيل لي إن هناك ضحايا آخرين، لكن الوصول إليهم يتطلب الذهاب إلى أحياء أخرى لأنهم غادروا هذا الحي، فقررت أن أتوقف عند هذا الحدّ وأن أنتقل للواقعة التالية.
في بعض الأحيان، كنت أجد في الوثائق تفصيلة محددة تثير انزعاجي الشديد فأبدأ البحث وراءها، وهو ما حدث مع غارة أمريكية على ”قوة وُصفت بالمُعادية“ تدخل ”موقع قتال دفاعي“ في الرمادي في نوفمبر من عام 2015. وفقاً للسجلات، رصدت القوات ”عناصر معادية“ تتحرك في المسافة الفاصلة بين صف أشجار وأحد المباني، حيث شوهد شخص ”يجرّ جسماً ثقيلا ًمجهول الهوية“ إلى داخل المبنى. تزامن ذلك مع استدعاء الطائرات للتوجه نحو أهداف أخرى، فقُصف المبنى. وعند مراجعة الفيديو بعد الغارة، قال مسؤول في مركز القيادة إن الجسم الثقيل كان في حقيقة الأمر ”شخصاً ضئيل البنية“ يرافق شخصاً آخر ضعف طوله تقريباً. خلُص التقييم إلى أن هذا هو الشكل الذي ”سيبدو عليه طفل واقف إلى جوار شخص بالغ“. ولم يتحدد عمر أو جنس هذا الشخص الصغير قط.
في شهر يونيو، ذهبت إلى الرمادي في محاولة للبحث عن هذا الشخص الصغير والوقوف على حقيقة ما حدث. وجدتُ إحداثيات الغارة في وثائق الجيش حيث زُعم أنها دقيقة ”في نطاق 100 متر“ لكنها بدت متناقضة مع التفاصيل الأخرى في الوثيقة، التي تضمنت صورة بالقمر الصناعي للمنطقة بأكملها. رغم ذلك، ذهبت إلى المكان، الذي كان بستاناً، وبدأت أسأل السكان عما إذا كانوا على علم بأي غارات جوية على المنازل في هذه المنطقة. لم يكن أحد يعرف شيئاً. كانت أقرب غارة تذكروها بجوار ضفة النهر، فقدتُ السيارة في دائرة قطرها 400 متر وأنا أسأل المزيد من الأشخاص لكن بلا جدوى.
ذهبتُ بعدها إلى المنطقة التي ظهرت في صور القمر الصناعي على بعد كيلومتر. كانت أرضاً زراعية يقسمها طريق اصطفت البيوت على جانبيه. طرقتُ باب منزل كبير لأطلب الإذن كي أركن السيارة هناك بينما أتجول في المكان. أجابتني امرأة لم تكن تعرف شيئاً عن أي غارة جوية لكنها قالت إنه ينبغي عليّ أن أسأل زوجها الذي لم يكن بالمنزل حينئذ. وعدُتها أن أعود في وقت لاحق، وذهبتُ إلى منزل آخر في الجهة المقابلة من الشارع. قال الرجل الذي فتح لي إن منزل عائلته قد قُصف في مكان قريب، لكنهم لم يكونوا في المنزل في تلك الفترة.
أخيراً عثرتُ على دليل في المنزل المجاور، حيث أخبرني رجل أن منزله قد قُصف وأعيد بناؤه. كانت لديه طفلة جلست على حجري ونحن نتحدث. كانت تمسك بيدي عندما ذهبنا عبر حديقته الخلفية إلى مكان المنزل القديم حيث التقطتُ بعض الصور. أخبرني الرجل أنه لم يكن في الرمادي في ذلك الوقت، لكنه اتصل بشقيقه الذي كان في المدينة وقت الغارة. انتظرتُ وصول شقيقه بينما أتحدث معه وألعب مع ابنته، وعندما وصل شقيقه بعد نصف ساعة تقريباً، عرفتُ منه أن الغارة على هذا المكان حدثت في تاريخ آخر. لم تكن هي نفس الغارة التي أبحث عنها.
في النهاية، كان ذلك موقع واحد لم أتمكن من التحقق مما حدث فيه من بين 25 موقعاً زرتها في العراق وسوريا من إجمالي 60 موقعاً أقرّ الجيش بسقوط ضحايا مدنيين فيها. وهناك ثلاثة سيناريوهات مرجحة وراء حدوث ذلك: إما أن ”الشخص ضئيل البنية“ كان طفلاً لأحد مقاتلي داعش وفي هذه الحالة سيكون من المستبعد أن أعرف أي شيء عنه؛ أو أن هذا الطفل كان من أسرة مدنية نزحت من مكانها بسبب العنف وتعيش الآن في أحد المخيمات في مكان بعيد؛ أو أن الغارة وقعت في مكان آخر تماماً.
واجهتُ مشكلة أخرى تتعلق بطريقة احتفاظ الجيش بالسجلات على نحو لا يمكن الاعتماد عليه. ففي السجلات التي توثق جميع الغارات (والتي استخرج منها الجيش الإحداثيات التي شاركها مع مجموعة Airwars)، كانت ”الغارة“ الواحدة تتضمن أكثر من عشرة اشتباكات. وقد أوضح لي مسؤول في الحملة الجوية أنهم لجأوا لذلك بسبب الكم الهائل من الغارات الجوية التي نفذها التحالف في العراق وسوريا – بحيث كان من الصعب توثيق كل تلك الغارات في سجلات منفصلة. وعليه، عندما تتضمنن ”الغارة“ الواحدة عدة اشتباكات، فإن الوصول إلى إحداثيات كل اشتباك على حدة يتطلب بيانات أكثر تفصيلاً من المتاحة في السجلات. ونتيجةً لذلك، رُفضت كثير من الادعاءات الوجيهة للناجين من الغارات لأن الجيش لا يملك توثيقاً لأي غارة في تلك المنطقة.
من المرجح أن يكون ذلك ما حدث في هذا القصف الذي كنت أحاول تقصّي ملابساته في الرمادي. فبحسب الوثائق، كان هذا هو الاشتباك السادس عشر من إجمالي 17 ”اشتباكاً“ وقعت ”في الرمادي وحولها“ يوم 13 نوفمبر عام 2015، وكل هذه الاشتباكات اعتُبرت معاً غارة واحدة. ربما يكون هناك 16 موقعاً آخر يمكن البحث فيها حول مدينة الرمادي، ولكن أين بالتحديد؟ لم يكن هناك سبيل لمعرفة ذلك، ولم يكن هناك سبيل لأن أجد هذا الشخص الصغير الذي افتُرض خطأً أنه جسم ثقيل. لم يكن بوسعي معرفة إن كان قد قُتل أم لا يزال على قيد الحياة.
”لماذا قتلتموهم“
وُضعت قواعد الحرب لخدمة أغراض شتى، بدءاً من تنسيق الجهود في خضم فوضى المعركة ووصولاً إلى وضع قيود على استخدام التكنولوجيا التي تتيح للمخططين العسكريين توجيه الضربات القاتلة بسهولة لا حدّ لها. ولهذه القواعد غرض نفسي أيضاً؛ فكما أخبرني مسؤول رفيع المستوى في الحملة الجوية ضد داعش، وُضعت هذه المبادئ التي توجّه صناعة القرار في الحرب بهدف تحقيق الراحة النفسية لمن يتعين عليهم اتخاذ تلك القرارات.
ينطبق نفس المنطق على المواطن الأمريكي. لماذا يرى الشعب أن الحروب في العراق وسوريا وأفغانستان عادلة؟ وكيف نعرف أن الحروب القادمة ستكون عادلة هي الأخرى؟ إنه لأمر شبه مؤكد أن التكنولوجيا التي تم تطويرها في الحروب السابقة ستُستخدم في حروب قادمة. وعندما نعرف أن المخططين في الجيش الأمريكي - المسؤولين عن استخدام أنظمة التكنولوجيا الفائقة الجديدة في الحرب الجوية - يخضعون لمبادئ معينة، فإننا نشعر بالارتياح تجاه إنسانية وأخلاقية الإجراءات التي تتخذها حكومتنا.
رغم ذلك، وأثناء محاولاتي لفهم أسباب سقوط القنابل الأمريكية حيث سقطت، كنت لا أشعر بالارتياح أحياناً حين أضطر لشرح كيفية تطبيق تلك المبادئ على أرض الواقع.
وأكثر لحظة واجهتُ فيها هذا الشعور كانت في مقابلة أجريتها في شهر يونيو في حي التنك غرب الموصل. ففي عام 2017، حدّد المسؤولون العسكريون منزلاً يبيت فيه مقاتلو داعش استناداً إلى أنباء من خمسة مصادر مختلفة. كان منزلاً سكنياً مدرجاً على قائمة الأهداف المحظور قصفها، إلى أن خلُص الجيش إلى أن استخدام المنزل مقتصر الآن على عناصر من داعش، فاستُبعد من القائمة وصُرِّح باستهدافه.
لكن في اليوم المحدد للضربة، رأى المراقبون شيئاً لم يتوقعوه؛ رأوا ثلاثة أطفال فوق سطح المبنى. طرح وجود هؤلاء الأطفال تساؤلات عما إذا كان استخدام المنزل مقتصراً على مقاتلي داعش، ولذا أعاد فريق الاستهداف تقييم جميع المعلومات والصور المتاحة عن الهدف. وفي اليوم الثاني، حدّث الفريق ”كشف تقديرات الضحايا“ بأن أضافوا إليه ثلاثة أطفال يعيشون على الأرجح في المنزل.
لم يكن ذلك خطأً. فوفقاً لقواعد الاشتباك في الجيش الأمريكي، يمكن للمخططين العسكريين أن يقتلوا المدنيين، بمن فيهم الأطفال، وهم على علم بذلك إذا لم تكن الخسائر المتوقعة زائدة عن الحد مقارنة بالمكاسب العسكرية المتوقعة من تدمير الهدف.
استمرت مراقبة المنزل، ورأى المراقبون شيئاً أكثر خطورة: ”[نص محجوب] صادرٌ من الهدف“ وهو ما جعلهم يعتقدون أن قوات داعش تصنّع الأسلحة في هذا المكان. وبعد تنفيذ الضربة بقليل، شوهد الأطفال جنوب المبنى، ورأى المسؤول عن مشاهدة الفيديو أن ”طفلاً تم إخراجه من مكان الضرب“.، ووُضع في سيارة توجهت به إلى أحد المرافق الطبية. خلصوا إلى أن الغارة أسفرت عن مقتل ثلاثة عناصر من داعش، وإصابة اثنين منهم، وإصابة طفل.
لم يمض وقت طويل حتى أعلنت وكالة إعلام تابعة لداعش في تغريدة على موقع تويتر أن 11 مدنياً قُتلوا في غارة في حي التنك. أقرّ محققو البنتاغون بصحّة تلك الأنباء لكنهم قالوا إن ”العدد ربما ينطوي على كثير من المبالغة بالنظر إلى مصدره“.
كم عدد القتلى الذين سقطوا في تلك الغارة؟ في يونيو الماضي ذهبتُ مع مؤمن إلى حي التنك نطرق الأبواب في مجمع سكني، ومعي الوثيقة على هاتفي وحولي مجموعة من الأطفال الذين يحركهم الفضول. سألت سيدة هناك عما إذا كانت تعرف شيئاً عن قصف أسفر عن مقتل مدنيين في المنطقة، فأشارت إلى مكان في نفس الشارع وأخبرتني أن 11 شخصاً من عائلة واحدة لقوا حتفهم جراء انفجار وأنه لم ينجُ من العائلة سوى طفلة صغيرة. وأضافت أن المنزل المجاور تعرض للقصف أيضاً ما أسفر عن إصابة فتاة أخرى. يمكنني أن أتحدث مع هذه الأسرة لأكتشف المزيد.
شكرتُ هذه السيدة وتوجهتُ إلى المنزل ذي البوابة الخضراء على مسافة قريبة في نفس الشارع. وهناك، دعاني عبيد عبد الله يونس وزوجته نسرين إلى الدخول. أخبرتني نسرين أن ابنتها فاطمة كانت تبلغ من العمر ثلاثة أشهر عندما قُصف البيت، وقالت وهي تشير نحو فتاة في الرابعة من عمرها كان جسدها يتلوى على الأرض وفمها مفتوح: ”شيء ما وقع على رأسها وجعلها هكذا“. وأثناء حديثنا، دخل الجيران المدفوعين بالفضول وبدأوا يتداولون نظرياتهم المختلفة حول سبب قصف البيت المجاور. لم يكن الأمر منطقياً؛ فهذه العائلة تعيش في الحي منذ 40 عاماً، وجميع الجيران أكدوا أنهم يعرفونهم وأنه لا صلة لهم بداعش. ربما يكون سبب القصف هو ذلك المنزل الذي اتخذه مقاتلو داعش ثكنةً لهم في الجهة المقابلة من الشارع، رغم أنهم كانوا قد أخلوه قبل الضربة ولم يلحق به أي ضرر. أو ربما تكون الدراجة النارية المركونة في الخارج، أو الشاحنة المركونة أمام المنزل. أياً كانت النظرية، لم يذكر أحدٌ عائلة محمد أحمد محمد محمد موسى بسوء.
سألتُهم ما إذا كانوا يعرفون مكان الناجية الوحيدة التي تُدعى رهف. فقالت نسرين إنها انتقلت للعيش مع جدّيها على مسافة قريبة بالسيارة. استقل أحد الأبناء السيارة معي أنا ومؤمن ليدلّنا على الطريق.
كانت شقيقةُ محمد موسى، وتُدعى كتبية، تشع دفئاً ومودّة. دعتنا بابتسامةٍ إلى غرفة استقبال الضيوف وقدّمت لنا الماء البارد في وعاء أنيق. بدأتُ حواري معها بطريقتي المعتادة، فأخبرتُها أني صحافية أحاول فهم ملابسات الحوادث التي سقط فيها ضحايا من المدنيين، وأني أودّ سؤالها عن أشياء مختلفة، لكن إذا سألتها عن شيء يؤلمها، فبإمكانها أن تمتنع عن الإجابة متى شاءت. طلبتْ مني أن أسألها عن أي شيء أريد السؤال عنه.
قالت كتبية إن ابنتها إسراء كانت متزوجة من ابن شقيقها، ولذا فهي لم تفقد شقيقها فقط، بل فقدت ابنتها، التي كانت أقرب أصدقائها، وأحفادها وأبناء وبنات شقيقها. بعد القصف، سمع الجيران صوتاً أشبه بصراخ قطٍّ تحت الأنقاض وعندما أزاحوا تلك الأنقاض وجدوا رهف.
أخبرتني كتبية أن شقيقها وأسرته كانوا يخططون لزيارتها وتناول الطعام لديها تلك الليلة. كانوا فقراء الحال لا يجدون ما يسدّ رمقهم. قالت إنهم ماتوا دون تناول العشاء. كان شقيقها يعمل حارساً في سجن بادوش لكنه ترك العمل بعد أن استولت قوات داعش على السجن. أما مَعَن، زوج ابنتها، فكان طالب تمريض لكنه اضطر لترك الدراسة هو الآخر. كان محمد موسى متحمساً للأنباء المتداولة عن تحرير المدينة واحتفظ سراً بتلفزيون في منزله، في مخالفة لأوامر داعش، ليتابع الأخبار متلهفاً لسماع الأنباء حول تقدم الجيش العراقي.
سألتُها عن سبب قصف منزل شقيقها.
كانت كتبية واثقة أن المنزل قُصف بطريق الخطأ. لكنها طرحت، هي وأفراد عائلتها الذين حضروا المقابلة، نظريات مختلفة حول سبب القصف. فقد كانت هناك شاحنة تابعة لداعش مركونة تحت إحدى الأشجار أو تتحرك على الطريق. ربما كانوا يستهدفون تلك الشاحنة. كان هناك تنّور على سطح المنزل، وهو فرن من الطين يصنعون فيه الخُبز. ربما رأوا الدخان المتصاعد من سطح المنزل وهم يراقبونه من الأعلى.
تساءلتُ عما إذا كانت الكلمة المحجوبة التي وُصفت بأنها ”صادرةٌ من الهدف“ في الوثيقة هي الدخان أو اللهيب المتصاعد من الفرن.
بعد ساعة ونصف من حديثنا، أخبرتُها عن الوثيقة. لخّصت لها الوصف الأوّلي؛ وهو أنهم ظنوا أن قوات داعش تستخدم المنزل لأغراض عسكرية، ثم أخبرتها أنهم رأوا ثلاثة أطفال على سطح المنزل قبل الضربة.
تغيّر وجه كتبية. أخبرتني بصوت هادئ أن الأطفال كانوا يصعدون إلى سطح المنزل عندما يشعرون بالبرد. كانوا في شهر يناير ولا يوجد غاز للتدفئة في المنزل. أما على السطح فيمكنهم الشعور بالدفء تحت الشمس.
وصفتُ لها أنه بعد رؤية الأطفال، أعيد تقييم الهدف وأنهم رأوا شيئاً قادماً من المنزل جعلهم يعتقدون أنه مصنع للأسلحة.
طلبتْ كتبية مني أن أخرج إلى الحي وأسأل عن عائلتها، وقالت: ”سيخبرك الجميع نفس الشيء. هذا مستحيل“.
سألتُ كتبية ما الذي تودّ أن تقوله للأشخاص الذين كتبوا تلك الوثيقة والذين نفذوا الغارة.
قالت وقد خلا صوتها من المودة: ”لماذا قتلتموهم؟ كانوا أبرياء ولم يفعلوا شيئاً“. بدأت تنتحب وتابعتْ: ”تحولت أجسادهم إلى كتلة من اللحم. لم يكن في منزلهم ما يثير الشكوك على الإطلاق. الآن أسألكم، وأود أن أعرف السبب. لم يكن هناك أي مصنع“.
أخذت تجهش بالبكاء، فاعتذرتُ عن سؤالي بصوت متهدّج. أخبرتني أنها ممتنة، وأنهم أرادوا معرفة ذلك، وأنها سعيدة لأني أحقق في وفاتهم، وأنها لم تنسهم قط.
قالت: ”ما زلت أرى ظلالهم أمام“.
أخبرتها أني أودّ سؤالها عن شيء أخير، ووصفت لها كيف أن المراقبين العسكريين قرروا أن الغارة كانت مقبولة لأن المكاسب العسكرية من تدمير مصنع أسلحة لداعش تبرر مقتل الأطفال. سألتُها عن رأيها في هذا القرار؟
قالت: ”لكنهم لم يحققوا أي مكسب. الشيء الوحيد الذي فعلوه هو أنهم قتلوا الأطفال“.