هذه الشاشة للسياسيين المنحرفين والغوغاء الجهلاء المدافعين عن القمع و الاستبداد مجرد قطعة قماش..
في ديسمبر/ كانون الأول 1895 أُقيم في باريس أول عرض للسينما في العالم وبعد ذلك بأسابيع قليلة وصلت السينما إلى مصر، فأُقيم عرض سينمائي في الإسكندرية ثم القاهرة وبورسعيد، وهكذا عرفت مصر فن السينما قبل دول غربية كثيرة. وقد استطاع رجل إيطالي اسمه "هنري ديللو سترولوجو" أن يحصل على امتياز العرض السينمائي من مخترعي السينما الأخوين لوميير وأقام أول صالة للعرض السينمائي في الإسكندرية في عام 1897.
كانت التذكرة بخمسة قروش، وهو مبلغ كبير بمقياس ذلك الزمان، وكانت الأفلام عبارة عن مشاهد قصيرة صامتة فيشاهد المتفرج مثلاً مشهد "العمال يتناولون الطعام في ساعة الراحة"، ثم يعقبه مشهد آخر عنوانه "القطار يدخل إلى المحطة"، ثم مشهد ثالث عنوانه "المجرم يختطف الفتاة الجميلة".
كان استمتاع المتفرجين بالسينما فائقاً، ولكن ظهرت مشكلة عجيبة تكررت كثيراً فقد كان المتفرجون يعتبرون ما يرونه على الشاشة يحدث فعلاً، فإذا رأوا القطار ينطلق على الشاشة أصابهم الفزع وركضوا خارج الصالة وإذا رأوا المجرم يختطف الفتاة الجميلة اندفعوا جميعاً نحو الشاشة لإنقاذ الفتاة، فتكون النتيجة تمزيق شاشة العرض، مما يضطر الخواجة الإيطالي في كل مرة إلى شراء شاشة جديدة.
توصل الخواجة إلى حل للمشكلة فصار يقف على باب السينما وبعد أن يشتري المتفرج التذكرة كان يأخذه معه إلى شاشة العرض ثم يمسكها بأصابعه ويقول:
- بص يا حبيبي! هذه الشاشة مجرد قطعة قماش.كل ما سوف تشاهده على هذه الشاشة صور خيالية لم تحدث. أرجوك لا تمزق الشاشة.
عندما نقرأ هذا التاريخ الآن فإننا نبتسم سخرية أو إشفاقاً من سذاجة المتفرجين الذين مزقوا الشاشة لينقذوا الفتاة الجميلة، لكننا الآن بعد أكثر من 120 عاماً لازال الكثيرون في مصر والعالم العربي يتصرفون مثل المتفرجين الأوائل لأنهم عاجزون عن التمييز بين الحقيقة والخيال.
في كل عام ما أن يهل شهر رمضان ويبدأ عرض المسلسلات التليفزيونية حتى تنهال الدعاوى القضائية على صانعي المسلسلات، لأن كل صاحب مهنة يعتبر أن ظهور شخصية من نفس مهنته في المسلسل إنما تعبر عن أصحاب المهنة جميعاً، فإذا ظهر محامي نصاب في مسلسل أو فيلم فإن نقابة المحامين ستقاضي المنتج لأنه أساء لمهنة المحاماة.
نفس التصرف يقوم به أصحاب المهن الأخرى جميعاً. في عام 2006 عندما تم إنتاج فيلم "عمارة يعقوبيان" المأخوذ عن روايتي فوجئت بصحفي يتقدم بشكوى ضدي إلى نقابة الصحفيين لأني قدمت شخصية صحفي مثلي الجنس وقد قابلت هذا الصحفي، فبادرني قائلاً:
- أنا زعلان منك لأنك قدمت شخصية صحفي عنده شذوذ جنسي. دي فضيحة للصحفيين كلهم. كيف أستطيع أن أواجه أفراد أسرتي وأصحابي وجيراني؟!
أجبته:
- أنا لم أكتب الفيلم أنا كتبت الرواية.
- أنا لا أقرأ الروايات لكن هذه الشخصية من تأليفك.
- هذه شخصية خيالية لا تعبر عن كل الصحفيين.
- أرجوك ابحث لهذا الشاذ عن مهنة أخرى.
- بنفس هذا المنطق سيعترض أصحاب المهنة الأخرى.
- طيب. اعمل شخصية صحفي آخر قدرته الجنسية ممتازة حتى يكون هناك توازن.
بالطبع لم أستمر في هذا الحوار العبثي، ومن حسن الحظ آنذاك أن نقيب الصحفيين جلال عارف وسكرتير النقابة يحيى القلاش كانا مثقفين مستنيرين وبذلا مجهوداً حتى أقنعا الصحفي بسحب شكواه لأن نقابة الصحفيين قلعة الحريات لا يجوز أن تتورط في شكاوى تحمل هذا القدر من الجهل. عندئذ أدركت أن الكثيرين من المصريين والعرب يعانون من صعوبات في فهم طبيعة الفن..
هذا العام ظهرت شخصية ممرضة محجبة في فيلم تنام مع الطبيب بدون زواج، فغضبت الممرضات بشدة وطالبن بمحاكمة صناع الفيلم وفي أحد المسلسلات ظهرت شخصية رجل يمزق جواز سفره المصري، فتقدم محامون ببلاغ ضد الممثل وطلبوا محاكمته بتهمة إهانة مصر أي أن هؤلاء المحامون المتعلمون لا يفهمون الفرق بين الممثل والشخصية التي يؤديها.
الأمثلة كثيرة وكلها تدل للأسف على تفشي الجهل بالفنون والآداب والسبب في ذلك أن الحكم العسكري أدى إلى تدهور التعليم حتى وصل إلى الحضيض. إن التلميذ المصري لا يدرس التذوق الأدبي في المدرسة على عكس التلميذ في الدول المتقدمة.
كثيراً ما شاركت في مناقشة لأعمالي الأدبية في المدارس الثانوية في فرنسا وألمانيا وإيطاليا، إذ أن التذوق الأدبي هناك مادة أساسية وبالتالي يتعلم التلميذ مبكرا كيف يقرأ الأدب ويتعلم بالطبع أن الشخصيات الأدبية خيالية ولا تعبر إلا عن نفسها، وبالتالي لن تجد أبدا من يعترض على تصوير أي مهنة في رواية أو عمل فني.
المؤسف أن فهمنا لطبيعة الأدب والفن كان أفضل بكثير قبل عقود، فقد كتب الأديب العظيم يحيى حقي قصة بطلها مؤذن في جامع السيدة زينب لكنه مدمن للخمر. لقد نشرت هذه القصة في العشرينيات من القرن الماضي فلم يعترض أحد ولم يتقدم أحد ببلاغ ضد يحيى حقي بتهمة الإساءة للإسلام. إن الديكتاتورية قد أدت إلى تدهورنا في كل المجالات.
عندما نتخلص من الاستبداد ستأتي حكومات منتخبة تهتم بالمجتمع أكثر من اهتمامها بالنظام وتهتم برعاية المواطنين أكثر من حماية الديكتاتور، وعندئذ ستنهض مصر من جديد. أما هؤلاء العاجزون عن التمييز بين الحقيقة والخيال فنحن نكرر عليهم ما قاله صاحب السينما الإيطالي منذ أكثر من 120 عاما:
"هذه الشاشة مجرد قطعة قماش وكل ما سوف تشاهدونه عليها خيال لم يحدث".
الديمقراطية هي الحل
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.