بعد إطاحة عمر البشير واستلام عبد الفتاح البرهان الحكم في 11 أبريل 2019، وضع ائتلاف المعارضة الرئيسي والمجلس العسكري الحاكم في السودان اللمسات الأخيرة على وثيقة تقاسم السلطة والتي من شأنها أن تمهد الطريق لبدء مرحلة انتقالية تؤدي إلى حكم مدني في البلاد.
ومع ذلك، لا تزال الأدوات، التي طالما استخدمها البشير خلال فترة حكمه، راسخة بعمق في النظام السياسي. وفى حين رحب السودانيون بوثيقة تقاسم السلطة، إلا أن هذا القبول قد تبعته جرعة قوية من الشك تتعلق بمدى نجاحها.
ففي حين مثـَّل ترسيخ اتفاقية تقاسم السلطة منعطفا حرجا في تاريخ السودان، إلا أنه يبقى أن نرى إن كان كافيا لمواجهة البنية التحتية القوية والقمعية التي خلفها النظام القديم.
التوصل لاتفاق
وقد وقع على الوثيقة كل من نائب رئيس المجلس العسكري الانتقالي، محمد حمدان دقلو (حميدتي) كممثل للمجلس العسكري، وأحمد الربيع، كممثل لتحالف "قوى الحرية والتغيير". وقد تمخض الاتفاق عن تشكيل حكومة جديدة ووضع الخطوط العريضة لتقاسم السلطة بهدف تسهيل انتقال سلس لمدة ثلاث سنوات، يتم بعدها إجراء انتخابات حرة ونزيهة.
وفي الوقت عينه، أعلن الطرفان حل المجلس العسكري الذي حكم السودان منذ الإطاحة بالبشير وتشكيل مجلس مشترك يتألف من خمسة أفراد من العسكر وستة أفراد من المدنيين. ويترأس المجلس المشترك، المعروف أيضًا باسم المجلس السيادة الانتقالي، عبد الفتاح البرهان، الرئيس السابق للمجلس العسكري الانتقالي. ومن بين الأعضاء الذين تم تعينهم وينتمون إلى المجلس العسكري الانتقالي، حمديتي، وياسر عطا، وإبراهيم جابر، وشمس الدين كباشي.
أما الأعضاء الخمسة المعينون من المدنيين فهم يضمون حسن الشيخ إدريس قاضي، والصديق تاور كافي، ومحمد الفقي سليمان، ومحمد عثمان حسن التعايشي، وعائشة موسى سعيد. وقد توصل الجانبان إلى اتفاق بشأن العضو الحادي عشر، وقاموا باختيار، رجاء نيكولا عبد المسيح، وهي قاضية مسيحية قبطية. كما اختارت قوى الحرية والتغيير، الاقتصادي عبد الله حمدوك، لتولى منصب رئيس الوزراء للفترة الانتقالية في البلاد. ويترأس رئيس الوزراء حمدوك الآن الحكومة الانتقالية المكونة من 18 عضوا والذين تم اختيارهم من قبله من بين قائمة أعدتها قوى الحرية والتغيير. وتهدف عملية الاختيار إلى كبح سلطة العسكر ومحاربة الهياكل الفاسدة التي أنشأها النظام السابق.
ووفقًا لاتفاق تقاسم السلطة، سيتولى أحد القادة العسكريين قيادة المجلس المشترك لمدة 21 شهرًا ويتم التحول بعدها إلى الحكم المدني خلال الثمانية عشر شهرا اللاحقة، استعدادًا لإجراء انتخابات ديمقراطية في عام 2022. ومع ذلك، يخشى المدنيون من أن تقوم المؤسسة العسكرية بالانقلاب على الاتفاق الدستوري ورفض تسليم السلطة لحكومة منتخبة.
تحديات التحول الديمقراطي في السودان
سمحت عقود من الحكم المتواصل للجيش بأن يظل القوة المهيمنة على السياسة السودانية، حيث قام بتوسيع صلاحياته في ظل حكومة حمدوك، بما يتجاوز تلك المنصوص عليها في الاتفاقية، وهو ما أضعف من سلطة رئيس الوزراء. كما سعت المؤسسة العسكرية إلى احتكار المعلومات المتعلقة بالدولة وبسط نفوذها وسيطرتها على المدنيين في الحكومة الانتقالية والاستيلاء على صلاحياتهم. ومن ثم، فقد المدنيون ثقتهم في المؤسسة العسكرية، فالمتتبع لتاريخ السودان الحديث يجد أن البلد لم يهنأ بعد استقلاله عام 1956، بحكومة مدنية أكثر من عامين.
تعاني المؤسسة العسكرية في السودان من انقسام حاد، إذ يسعى كل طرف إلى تعزيز دوره إقليميا ودوليا. وتنقسم المؤسسة العسكرية إلى قسمين؛ وزارة الدفاع، والتي كان يقودها رئيس المجلس السيادي عبد الفتاح البرهان، وتخضع حاليا له بصورة غير مباشرة. والقسم الثاني يتمثل بقوات الدعم السريع، والتي تخضع بالكامل إلى محمد حمدان دقلو الملقب بـ "حمديتى".
تمثل زيارة البرهان، الذي يسيطر على الشؤون الخارجية للدولة، إلى أوغندا في فبراير الماضي للقاء رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتانياهو، أبرز مثال على الانقسامات داخل الجيش. وخلال تلك الزيارة، أبرم البرهان اتفاقا أحاديا مبدئيا مع رئيس الوزراء الإسرائيلي يقضي بتطبيع العلاقات بين البلدين ومن دون مشاورة الأطراف المدنية، التي ترى أن خطوة التطبيع ليست من أولويات الحكومة الانتقالية، فمهمتها الأساسية هي تعزيز الاقتصاد وتثبيت مراكز الدولة لإجراء انتخابات وتهيئة البلاد إلى عملية انتقال ديمقراطية سلسة بحلول عام 2022.
وفي الوقت نفسه، يشكل النفوذ المتزايد لحمديتي أيضا خطرا كبيرا على التحول الديمقراطي في السودان، فغالبًا ما يعتبره كثيرون الرجل الأول والزعيم الفعلي للسودان، كما أن انخراطه في الحكومة قد أدى إلى تقويض الحكم المدني. وتسيطر قوات الدعم السريع بقوة على الشارع السوداني، فلا يكاد شارع يخلو من هذه القوات، وحتى منازل القيادات السياسية كانت محمية بهذه القوات، إضافة لوجودها أيضا في مداخل القصر الجمهوري.
يمكن تفسير صعود حمديتى إلى السلطة من خلال دعمه من قبل بعض الدول الإقليمية الفاعلة، مثل مصر والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة. كما يرجع توسع سلطة حمديتى أيضا إلى سيطرته على مناجم الذهب والحصص التي يمتلكها، حيث تظهر قبضته مدى صعوبة إنقاذ الاقتصاد السوداني، الذي دمرته سنوات من الصراع. وعلى الرغم من تعهدات حميدتي، بإقامة انتخابات حرة ونزيهة وتحقيق الديمقراطية في السودان، وتكراره الدائم لمقولة "جئنا لنخدم الشعب السوداني ولم نأت لمساعدة حزب أو جهة"، إلا أنه يقوم حاليا بتعزيز سلطته شعبيا وسياسيا، من خلال تشكيل حزب سياسي جديد، وتقديم مساعدات إنسانية وصحية لمواجهة تفشى فيروس كورونا، وإبراز دوره كقائد للسلام يعمل على الفض بين المتنازعين في السودان.
مستقبل السودان السياسي غير المؤكد
يعتمد مستقبل التحول الديمقراطية في السودان حاليا على عدة عوامل داخلية وإقليمية ودولية، منها نجاح حكومة حمدوك في الفترة الانتقالية في تحسين وضع المواطن السوداني اقتصاديا واجتماعيا. أما إقليميا، فستحدد ديناميكيات الصراع في المنطقة مستقبل السودان ومدى قدرته على الوصول إلى تسوية في ملف أزمة سد النهضة. ومن ناحية أخرى، فإن استقرار المنطقة سيكون بمثابة حافز للتحول من الحكم العسكري إلى الحكم المدني. ومع ذلك، يمكن أن يؤدى استمرار الصراعات الإقليمية إلى تحفيز القادة العسكريين السودانيين على الاستمرار في السلطة، مما يجعل من غير المحتمل، بشكل متزايد، أن يقوموا بتسليم السلطة طواعية إلى المدنيين.
ومع ذلك، فإن الاحتجاجات التي اندلعت في 30 يونيو تحت شعار "تصحيح مسار الثورة"، عكست رغبة شريحة كبيرة من المجتمع السوداني في تحقيق انتقال سياسي حقيقي وملموس. كما كان لدعم المتظاهرين رئيس الوزراء، حمدوك، أثر كبير على موازين القوى في السودان، حيث طالب المتظاهرون برحيل الجيش وحماية الثورة. لذلك، فإن رفض المحتجين للمكون العسكري ودعمهم لحمدوك يمثل ثقلا إضافيا للعنصر المدني في هذه المرحلة.
واستجابة لمطالب الشارع، وبعد أسبوع من الاحتجاجات، أصدر مجلس الوزراء السوداني بيانا أعلن فيه رغبته في إجراء تعديل وزاري وطالب ستة وزراء بالاستقالة، منهم وزراء الزراعة والموارد الطبيعية والنقل والبنية التحتية والموارد الحيوانية. كما استخدم رئيس الوزراء، حمدوك، حسابه الخاص على تويتر لدعم مطالب المحتجين علناً، قائلاً إن "الثقة التي منحها الشعب للحكومة الانتقالية تجبرنا على الاستماع إلى صوت الشارع".
ومن المتوقع أن تهدئ هذه الإجراءات مؤقتا من روع الشارع السوداني إلى أن تثبت الحكومة الجديدة كفاءتها وتوافقها مع مطالب الثورة. كما أن من مصلحة السياسيين السودانيين في الفترة القادمة تجنب الانجرار إلى سيناريوهات يمكن أن تعيد الديكتاتورية في السودان. ومن ثم، فإن الإقصاء السياسي لا يعمل لمصلحة السودان، والأفضل هو تكييف سياسة شاملة تجاه جميع القوى السياسية المتوازنة التي تتوافق أهدافها وأجندتها مع خيارات الشعب.
الحرة - واشنطن
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.