الأحد، 20 ديسمبر 2020

المسيرة الاستبدادية مستمرة.. مؤسسة حرية الفكر والتعبير: نشطاء الإسكندرية قيد الحبس الاحتياطي بسبب التعبير عن الرأي


المسيرة الاستبدادية مستمرة..

مؤسسة حرية الفكر والتعبير: نشطاء الإسكندرية قيد الحبس الاحتياطي بسبب التعبير عن الرأي


موقع مؤسسة حرية الفكر والتعبير / تاريح نشر التقرير الاحد 20 ديسمبر 2020 / مرفق الرابط

منهجية

اعتمد التقرير على تحليل حالات 32 شابًّا وشابة من محافظة الإسكندرية، تم حبسهم على ذمة 12 قضية، حصر نيابة أمن الدولة العليا. يغطي التقرير فترة زمنية تبدأ من يناير 2018 وتنتهي في منتصف ديسمبر 2020. واستند التقرير إلى تقارير إعلامية وحقوقية منشورة عن هذه القضايا، ومعلومات قانونية حصل عليها محامو مؤسسة حرية الفكر والتعبير. إضافة إلى استعراض القوانين ذات الصلة بالقضايا التي يتناولها التقرير.

 مقدمة

 منذ فبراير 2020، باتت مصر تواجه مخاطر انتشار عدوى فيروس كورونا المستجد، وأصبحت الحاجة ملحة للإفراج الفوري عن الآلاف من المحبوسين احتياطيًّا، وذلك لتقليل اكتظاظ أماكن الاحتجاز، التي تشكل بيئة مثالية لتفشي الأمراض والأوبئة، ومن جانب آخر، حتى يتم وقف استخدام الحبس الاحتياطي كعقوبة على حرية التعبير. لم تقم السلطات المصرية بإخلاء سبيل آلاف من المحبوسين احتياطيًّا، واكتفت النيابة العامة بإصدار قرار بإخلاء سبيل 15 متهمًا فقط، في مارس 2020. بينما واصلت الأجهزة الأمنية ممارساتها في القبض على مئات آخرين، في ظل انتشار فيروس كورونا المستجد.

وفي اﻹسكندرية، كان هناك عشرات من الشبان والشابات، من صحفيين ومحامين، وأعضاء أحزاب ونشطاء سياسيين، يتعرضون للحبس للمرة الأولى أو يتم تجديد حبسهم، خلال هذه الفترة الصعبة. يسلط هذا التقرير الضوء على عينة من المتهمين منهم، تحديدًا 32 متهمًا سكندريًّا على ذمة 12 قضية مسجلة بنيابة أمن الدولة العليا. يجمع بين هذه القضايا ارتباط اتهاماتها بأنشطة المتهمين في التعبير عن الرأي، والتي تراها تحريات الأجهزة اﻷمنية جرائم تتعلق باﻹرهاب. ولا تمنح نيابة أمن الدولة العليا تفاصيل حول ماهية تلك الجماعة الإرهابية، ولا يعلم أحد إن كانت جماعة واحدة تضم كل أولئك السكندريين، أم أنها جماعات مختلفة.

تم التحقيق مع أغلبية المتهمين الذين يشملهم التقرير، كذلك في اتهامات باستخدام حساب على مواقع التواصل الاجتماعي، بغرض نشر وإذاعة الأخبار والبيانات الكاذبة، وعلى مدار جلسات التحقيق مع المتهمين الاثنين والثلاثين، لم تواجه النيابة معظمهم بماهية الحسابات المستخدمة على مواقع التواصل، ولم تحدد الأخبار والبيانات المنشورة، حيث لم يطلع محامو المتهمين على أي محاضر تحريات، ولم يتم مواجهتهم بأي أدلة ملموسة. ويعاني المتهمون من خارج القاهرة من انتهاكات إضافية، نتيجة مركزية إجراءات التحقيق سواء أمام نيابة أمن الدولة العليا أو محكمة الجنايات بالقاهرة.

ويهدف التقرير إلى تناول الممارسات القمعية للأجهزة الأمنية في الإسكندرية، وبيان مدى تأثير مركزية نظام التحقيق على ذمة قضايا أمن الدولة، على المتهمين وذويهم، تلك القضايا التي يتم التحقيق فيها بداية في مقر أكاديمية الشرطة بالتجمع الخامس بالقاهرة الجديدة، وينتهي المطاف بها إلى مقر معهد أمناء الشرطة بطرة، جنوب القاهرة.

أولًا: تكميم الأفواه أثناء الجائحة: حبس النشطاء مستمر:

بدأت السلطات المصرية باتخاذ قرارات لمجابهة جائحة كوفيد-19، منذ مارس 2020، وشهدت مصر تزايدًا في أعداد الإصابات والوفيات بين صفوف الأطباء والعاملين بقطاع الصحة، منذ ذلك الحين. وعلى الرغم من هذه التحديات، لاحقت الأجهزة الأمنية أطباء وعاملين في القطاع الصحي، تعرضوا للحبس الاحتياطي ومنهم من لا يزال محبوسًا حتى صدور هذا التقرير.

في الإسكندرية، اختفت آلاء شعبان، الطبيبة بمستشفى الشاطبي التابع لجامعة الإسكندرية لمدة يومين، قبل أن تظهر أمام نيابة أمن الدولة التي حققت معها على ذمة القضية 558 لسنة 2020، ووفقًا لأقوال آلاء شعبان أمام النيابة، فإن مدير المستشفى أبلغ عنها لتعديها على اختصاصاته، وذلك بعد قيام ممرضة بالإبلاغ عن وجود حالة إصابة بفيروس كورونا بالمستشفى، باستخدام هاتف شعبان. وبعد ستة أشهر من الحبس الاحتياطي، أخلت الدائرة 2 إرهاب بمحكمة الجنايات سبيل آلاء شعبان، على ذمة القضية، وقررت استبدال بحبسها التدابير الاحترازية.

كما اختفي الصيدلي محمد السايس قسريًّا لمدة 5 أيام، بعد أن ألقت قوات الأمن القبض عليه في 4 إبريل 2020، أثناء تواجده داخل مكتبة بشرق الإسكندرية. ظهر السايس أمام نيابة أمن الدولة في 9 إبريل، وتم التحقيق معه على ذمة القضية 558 لسنة 2020 حصر نيابة أمن الدولة العليا، والتي تضم عددًا من الأطباء، وتم اتهامه بالانضمام إلى جماعة إرهابية، ونشر وإذاعة بيانات كاذبة واستخدام حساب على إحدى وسائل التواصل الاجتماعي بغرض نشر وإذاعة أخبار كاذبة. وذلك على خلفية كتابته على صفحته الشخصية بموقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، وانتقاده أداء وزيرة الصحة في التعامل مع أزمة انتشار فيروس كورونا المستجد.

لم تكتفِ الأجهزة الأمنية في سعيها إلى منع الآراء الناقدة لسياسات الصحة العامة بالقبض على الأطباء والصيادلة فقط، بل امتدت ممارساتها إلى صحفيين وباحثين كذلك. وقبضت قوات الشرطة على خلود سعيد، باحثة الإنثروبولوجي، ورئيسة قسم الترجمة بإدارة النشر بقطاع المكتبات بمكتبة الإسكندرية، في 21 إبريل 2020، وظهرت أمام نيابة أمن الدولة بالقاهرة في 28 إبريل بعد 7 أيام من الاختفاء القسري، تعرضت خلالها لمعاملة سيئة، وحرمت من الحصول على أدويتها، أو طعام مناسب.

وتم التحقيق مع خلود سعيد على ذمة القضية 558 لسنة 2020، واتهمتها النيابة بالانتماء إلى جماعة إرهابية، ونشر أخبار كاذبة، واستخدام موقع على شبكة الإنترنت بهدف ارتكاب جريمة. ووفقًا لتحريات الأمن الوطني، فإن خلود نشرت أخبارًا كاذبة عن وضع فيروس كورونا المستجد على حسابها الشخصي على موقع فيسبوك، بينما كان أغلب ما نشرته تنبيهات لأصدقائها حول ضرورة الالتزام بإجراءات الوقاية من فيروس كورونا المستجد. وتم إخلاء سبيل خلود سعيد، في 13 ديسمبر الجاري، بقرارٍ من محكمة الجنايات – غرفة المشورة. ولم يتم تنفيذ القرار حتى صدور التقرير.

 وفي 20 مايو 2020 اتجهت قوة أمنية إلى منزل شيماء سامي، وهي صحفية وباحثة سابقة بالشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان. ورغم القبض عليها وقيام رجال الأمن بإخبار أسرتها بأنهم سيصطحبونها إلى مقر الأمن الوطني بالإسكندرية، فإن وزارة الداخلية أنكرت وجود شيماء سامي لمدة 10 أيام، قضتها مختفية قسريًّا بمقر أمن الدولة بمنطقة أبيس في الإسكندرية.

ظهرت سامي أمام نيابة أمن الدولة بالتجمع الخامس في القاهرة، في 30 مايو 2020، وباشرت النيابة التحقيق معها على ذمة القضية 535 حصر أمن الدولة العليا لسنة 2020، ووُجهت إليها اتهامات بالانضمام إلى جماعة إرهابية ونشر أخبار كاذبة وإساءة استغلال وسائل التواصل الاجتماعي، ويتم تجديد حبسها على ذمة التحقيقات منذ ذلك الحين.

 اختفى خالد غنيم، مذيع بقناة مصر الحياة، لمدة 15 يومًا، تم احتجازه خلال هذه الفترة بمقر الأمن الوطني في أبيس بالإسكندرية، على خلفية كتابته منشورًا على حسابه بموقع فيسبوك، تناول فيه إهمال مستشفى العجمي في إجراء التحاليل اللازمة للمشتبه في إصابتهم بفيروس كورونا. وكانت قوات الشرطة قبضت على غنيم من منزله، في 13 إبريل 2020، وحققت نيابة أمن الدولة معه في 28 إبريل 2020، على ذمة القضية 558 حصر أمن الدولة العليا لسنة 2020، في اتهامات بالانضمام إلى جماعة أسست على خلاف القانون، ونشر أخبار كاذبة هدفها نشر الرعب بين الأفراد وإساءة استخدام وسائل التواصل الاجتماعي. ولا يزال محبوسًا على ذمة التحقيقات، حتى صدور هذا التقرير.

هكذا عانى نشطاء الإسكندرية من وطأة الانتهاكات الأمنية، خلال الفترة التي شهدت انتشار فيروس كورونا المستجد، ما يشير إلى استمرار نهج الأجهزة الأمنية في قمع الناشطين والباحثين والصحفيين في محافظة الإسكندرية. وهذا النهج، يتطرق إليه التقرير في القسم الثاني بمزيد من التفاصيل.

ثانيًا: من الاختفاء إلى التدوير: أنماط متعددة لانتهاك حقوق النشطاء السكندريين

يركز التقرير في قسمه الثاني على تحليل أنماط الانتهاكات التي يتعرض لها النشطاء السكندريين، وذلك بالنظر إلى القوانين ذات الصلة، والمعلومات المتوفرة عن قضاياهم المنظورة أمام نيابة أمن الدولة العليا.

 الاختفاء: كل السيناريوهات ممكنة

 التعرض للاختفاء القسري يثير الرعب سواء لدى الشخص المقبوض عليه أو ذويه، فكل السيناريوهات ممكنة، سواء باستمرار ذلك لمدة طويلة، أو التعرض للتعذيب، أو إمكانية التعرض للقتل خارج إطار القانون. ولكن تصر مؤسسات الدولة، وفي القلب منها النيابة العامة، على نفي وجود حالات اختفاء قسري، وعلى حد قول النائب العام حمادة الصاوي: “لا يوجد في مصر اختفاء قسري”.[1] وتتلقى النيابة العامة بشكل دوري عشرات البلاغات والتلغرافات التي تفيد باختفاء أفراد على يد قوات الأمن دون سبب معلن، دون أن تفتح تحقيقًا فيها.

تنص الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري، والتي لم توقع عليها مصر حتى الآن،[2] على أن الاختفاء القسري: “أي شكل من أشكال الحرمان من الحرية يتم على أيدي موظفي الدولة، أو أشخاص أو مجموعات من الأفراد يتصرفون بإذنٍ أو دعمٍ من الدولة أو بموافقتها، ويعقبه رفض الاعتراف بحرمان الشخص من حريته أو إخفاء مصير الشخص المختفي أو مكان وجوده، مما يحرمه من حماية القانون.” وبالنظر إلى حالات المتهمين السكندريين، موضوع هذا التقرير، يتضح أن الاختفاء القسري مرحلة أساسية مرَّ بها أغلبهم، فمن بين 32 شخصًا ممن يتناولهم التقرير، تعرض 26 منهم على الأقل للاختفاء القسري لمدد تراوحت من يومين إلى عشرة شهور، قبل أن يتم عرضهم رسميًّا على النيابة للتحقيق معهم.

وتنص المادة (36) من قانون الإجراءات الجنائية رقم 150 لسنة 1950 على أنه “يجب على مأمور الضبط القضائي أن يسمع فورًا أقوال المتهم المضبوط، وإذا لم يأتِ بما يبرئه، يرسله في مدى أربع وعشرين ساعة إلى النيابة العامة المختصة. ويجب على النيابة العامة أن تستجوبه في ظرف أربع وعشرين ساعة، ثم تأمر بالقبض عليه أو بإطلاق سراحه”، لكن تختلف المعاملة في الواقع عمَّا ينص عليه القانون، حيث احتاجت قوات الأمن إلى 313 يومًا بدلًا من أربع وعشرين ساعة لتعرض أحمد أشرف محمود جابر (24 عامًا) على النيابة، بعد أن تم إلقاء القبض عليه في محل عمله بالإسكندرية، وخلال هذه الفترة تنقَّل بين ثلاثة مقرات أمن دولة بالقاهرة تعرَّض فيها للتعذيب البدني إلى جانب الحبس الانفرادي.[3]

كما اختفى المحامي وليد سليم لمدة 40 يومًا، بعد أن ألقت قوات الأمن القبض عليه في منزله في 23 أكتوبر 2018، حتى ظهر أمام نيابة أمن الدولة العليا في 3 ديسمبر 2018، للتحقيق معه على ذمة القضية 1175 لسنة 2018، بتهمة الانضمام إلى جماعة إرهابية، تعدت فترة حبس وليد سليم احتياطيًّا مدة السنتين، وهي أقصى فترة للحبس الاحتياطي سمحت بها المادة (143) من قانون الإجراءات الجنائية، ما يعني أن احتجازه في الوقت الراهن مخالف للقانون.

وتبين من الرصد أن من بين الأماكن التابعة لوزارة الداخلية بالإسكندرية، كان لمقر الأمن الوطني بمنطقة أبيس الصدارة في استقبال المختفين قسريًّا، بصفته مكان احتجاز غير رسمي بمخالفة القانون. ورصدت مؤسسة حرية الفكر والتعبير تعرض امرأتين وخمسة رجال للتعذيب البدني بالضرب أو بالصعق بالكهرباء، فضلًا عن التعذيب المعنوي والتهديد، من بين إجمالي 32 شخصًا يتناول حالاتهم التقرير. وتمت هذه الممارسات أثناء فترة الاختفاء التي تسبق التحقيقات.

الترحيل: عبء إضافي على النشطاء

يشترط أن يتم التحقيق في اتهامات الإرهاب في القاهرة، حتى لو كان المتهمون من محافظات أخرى، حيث أن مقر نيابة أمن الدولة العليا يقع بالتجمع الخامس في القاهرة. ويعني ذلك أن النشطاء المتهمين الذين يتناولهم التقرير، تم نقلهم عبر الطرق السريعة إلى القاهرة. وكلما كانت هناك جلسات تجديد حبس على ذمة التحقيق، يتم نقل المتهمين المحتجزين في الإسكندرية في مواعيد هذه الجلسات إلى القاهرة.

وأصدر المجلس القومي لحقوق الإنسان توصيات بتحسين نقل السجناء والمحتجزين واستخدام سيارات ذات مواصفات أكثر آدمية، في تقريره السنوي لعام 2004،[4] بعد حدوث وقائع وفاة أثناء نقل سجناء. وتكررت مثل هذه الوقائع بعد ثورة يناير، ففي 14 يناير 2013 أصيب 18 سجينًا بعدما انقلبت بهم سيارة الترحيلات التي كانت تنقلهم من سجن الفيوم إلى قسم شرطة ببني سويف،[5] وفي 18 أغسطس من نفس العام، قُتِل 37  فردًا من أصل 45 في سيارة ترحيلات كانت تنقلهم من قسم مصر الجديدة إلى سجن أبو زعبل، بعد إلقاء أحد الضباط قنبلة غاز داخل السيارة، ردًّا على احتجاجات المحتجزين بالسيارة، والذين عانوا من التكدس وارتفاع درجة الحرارة طوال 6 ساعات.[6]  وعلى مدار أكثر من خمسة عشر عامًا لم تُحسِّن وزارة الداخلية من ظروف نقل السجناء والمحتجزين.

وفقًا للقاعدة 73 من قواعد الأمم المتحدة النموذجية الدنيا لمعاملة السجناء: “يُحظَر نقل السجناء في ظروف سيئة من حيث التهوية والإضاءة، أو بأيَّة وسيلة تفرض عليهم عناءً بدنييًّا لا داعي له”. يعاني النشطاء المتهمون الذين يتناولهم التقرير بدنيًّا، حيث يتم نقلهم في عربات الترحيلات سيئة التهويه، ذات الصندوق المعدني، على طريق سريع يزيد طوله على 200 كيلو متر.

ويزداد العناء البدني داخل سيارة الترحيلات، بسبب طريقة تعامل ضباط وزارة الداخلية مع المتهمين بشكل مهين في أغلب الأحيان. في ديسمبر 2020 تلقَّى النائب العام بلاغًا حمل رقم 27811  لطلب فتح تحقيق في “استعمال القسوة” بعد شكوى ماهينور المصري وإسراء عبد الفتاح،  أمام المحكمة من تعرضهما للدفع من قبل أحد الضباط أثناء نقلهما لحضور جلسة تجديد حبسهم في القضية 488 لسنة 2019. وكانت المتهمتان تطلبان بعدم تقييدهم بالكلابشات داخل سيارة الترحيلات، حتى تستطيعا التحكم في وضعهما داخل السيارة، وهو ما اعترض عليه الضابط مستخدمًا العنف تجاههما.[7]

الحبس: عقوبة التعبير عن الرأي

 تحوَّل الحبس الاحتياطي إلى عقوبة استباقية تطبق على المتهمين، وبالنسبة إلى غير القاهريين إلى شكل من أشكال النفي والتغريب. وفي الحالات التي يتناولها التقرير، يكون بعض النشطاء السكندريين في أماكن احتجاز بالقاهرة، وهنا تزداد الأعباء على الأهل فيما يخص السفر للزيارة والتواصل مع ذويهم المحبوسين. بينما البعض الآخر يبقى في أماكن احتجاز بالإسكندرية، ما يعني السفر المتكرر في سيارة الترحيلات غير الآدمية.

 تنص المادة 20 من مجموعة المبادئ المتعلقة بحماية جميع الأشخاص الذين يتعرضون لأي شكل من أشكال الاحتجاز أو السجن، على أن: “يوضع الشخص المحتجز أو المسجون، إذا طلب وكان مطلبه ممكنًا، في مكان احتجاز أو سجن قريب على نحوٍ معقول من محل إقامته المعتاد”.[8] في هذه الحالة تتعامل السلطات المصرية على أن وجود المحبوس احتياطيًّا في سجن قريب من محل سكنه مطلب غير ممكن، وذلك لأن نيابة أمن الدولة العليا ودوائر الإرهاب المنوط بها نظر تجديد حبس المتهمين بغرف المشورة، لا تتواجد سوى بالقاهرة.

ولأن قانون تنظيم السجون رقم  396 لسنة 1956 لم تَرِد به أي إشارة فيما يخص التوزيع الجغرافي للمحتجزين بالسجون، أصبح أغلب المتهمين على ذمة قضايا أمن دولة من الإسكندرية، موزعين بين سجون طرة وسجن القناطر للنساء. الأمر الذي يُصعِّب من فترة الحبس الاحتياطي على كلٍّ من المتهم وأهله.

وبدلًا من الإفراج عن المحبوسين احتياطيًّا، كإجراء احترازي لمواجهة وباء الكورونا، قررت وزارة الداخلية في مارس 2020، تعليق جميع الزيارات بالسجون، مع السماح للأهل بتسليم زيارة أسبوعية، لإمداد أبنائهم بما يحتاجونه من متعلقات شخصية، وعليه أصبح على أهالي المحبوسين السكندريين في القاهرة أن يسافروا لتسليم إعاشات دون رؤية أبنائهم.

في 11 ديسمبر 2019، ألقت قوات الأمن القبض على الناشط السكندري حسن مصطفى، ولم يظهر أمام النيابة إلا بعد 14 يومًا من الاختفاء القسري، وتم التحقيق معه على ذمة القضية 1898 لسنة 2019، واتهامه بالترويج لأفكار جماعة إرهابية، نشر وإذاعة عمدًا أخبارًا وبيانات كاذبة، واستخدام حساب على مواقع التواصل الاجتماعي بغرض نشر وإذاعة الأخبار والبيانات الكاذبة. ما زال حسن مصطفى محتجزًا بسجن طرة حتى الآن.

في يونيو 2020، توفيت والدة الناشط حسن مصطفى في القاهرة بعد أن وصلت من الإسكندرية في محاولة لزيارة ابنها المحبوس دون محاكمة، وبعد تسليمها إدارة السجن إعاشة لابنها، وعدم السماح لها برؤيته، توفيت في طريق عودتها.[9]

خاض المحامي محمد رمضان تجربة مشابهة، فرغم احتجازه بسجن برج العرب التابع لمحافظة الإسكندرية، ورغم احتجازه دون محاكمة، ودون وجود ما يثبت إدانته، لم يتم له السماح بزيارة والدته المريضة، ولم يتم السماح له بالخروج لتشييع جنازتها بعد وفاتها في أغسطس 2019، حيث رفضت النيابة طلبه بالخروج. وعلى صعيد آخر فإن رمضان، يعاني عددًا من المشاكل الصحية، ولا يَلقَى الرعاية الكافية بمحبسه.

وتُظهر هذه الحالات مدى الانتهاكات التي يتعرض لها النشطاء السكندريين المحبوسين احتياطيًّا داخل أماكن الاحتجاز، حيث يزداد التنكيل بهم وبذويهم، وتجاهل الظروف الإنسانية والاجتماعية التي يمرون بها.

التدوير: أداة أخيرة للتنكيل في يد الأجهزة اﻷمنية

رغم مرور شهور، وفي بعض الأحيان سنوات على بداية التحقيق مع كل المتهمين على ذمة القضايا التي اعتمد هذا التقرير عليها، لم يتم استكمال التحقيقات، وبالتبعية، أصبح ميعاد الإحالة إلى المحاكمة غير معلوم. واجه أغلب المتهمين في هذه القضايا نفس الاتهامات المرتبطة بالانضمام إلى جماعة إرهابية، أو مشاركة جماعة إرهابية في تحقيق أهدافها ونشر وإذاعة عمدًا أخبارًا وبيانات كاذبة، واستخدام حساب على مواقع التواصل الاجتماعي بغرض نشر وإذاعة الأخبار والبيانات الكاذبة.

وبالرغم من تشابه الاتهامات وتكرارها فإن السياق العام للقبض والإدراج على قضايا أمن الدولة كانت دوافعه مختلفة على مدار العامين المنصرمين، حيث تم التحقيق مع معظم المتهمين لسببين رئيسيين، الأول هو دعوات التظاهر في 20 سبتمبر 2019، والتي تكررت في سبتمبر 2020 على نطاق أضيق، وهو ما كان ذريعة لاستهداف المحامين الحقوقيين والنشطاء والمشتغلين بالمجال العام. والسبب الثاني ظهر في أعقاب تفشي وباء الكورونا في مارس 2020، حيث تم استهداف عدد من الأفراد على خلفية اعتراضهم على أداء الدولة في التعامل مع الأزمة الصحية، فضلًا عن استهداف أطباء في سياق تأديتهم عملهم.

لا يعلم أحد  إذا كان الجميع متهمًا بالانضمام إلى نفس الجماعة الإرهابية، أم أنهم متهمون بالانضمام إلى جماعات مختلفة، حيث لم يفصح أيٌّ من وكلاء النيابة الذين باشروا تحقيقات كل القضايا التي يستند إليها هذا التقرير عن اسم الجماعة محل الاتهام، وبالتبعية لم يفسروا اتهام المشاركة في تحقيق الأهداف المبهمة لهذه الجماعة الإرهابية المزعومة. ومن اللافت إلى الانتباه، توجيه تهم خاصة بالنشر إلى أفراد استخدموا حساباتهم الشخصية، ما يرجح معه مراقبة جهات الضبط والتحري حسابات المواطنين، وهو ما يشكِّل انتهاكًا للحق في الخصوصية.

لم تواجه النيابة أيًّا من المتهمين بأي دليل مادي ملموس، ودائمًا ما تعتمد على تحريات جهاز الأمن الوطني. وبدلًا من أن يسير التحقيق بين أسئلة مرتبطة عن الوقائع المنسوبة إلى المتهمين، يبدأ المحققون في سؤال المتهمين عن أمور لا ترتبط بالقضية، مثل: نشأتهم الاجتماعية والسياسية، أو تفنيد منشوراتهم على وسائل التواصل الاجتماعي.

ألقي القبض على زياد أبو الفضل عضو حزب العيش والحرية، من منزله في 5 مارس 2019، واختفى قسريًّا حتى ظهوره أمام النيابة التي أمرت بحبسه احتياطيًّا على ذمة القضية 1739 لسنة 2019، ورغم صدور أمر بإخلاء سبيله في 3 نوفمبر 2020، والذي على إثره تم نقله من محبسه بطرة إلى تخشيبة الخليفة، تمهيدًا لإخلاء سبيله من الإسكندرية، لم يتم تنفيذ القرار، وتم التحقيق معه مرة أخرى بعد تدويره على ذمة قضية جديدة برقم 855 لسنة 2020.

بعد ما يزيد على عام تقريبًا على حبس المحامية الحقوقية، ماهينور المصري، احتياطيًّا، تم تدوير ماهينور على ذمة قضية جديدة، الأمر الذي من شأنه أن يسمح بالتحايل على القانون وتمديد فترة حبسها احتياطيًّا إلى أكثر من عامين. وحققت نيابة أمن الدولة العليا مع المصري، في 30 أغسطس 2020، على ذمة القضية 855 لسنة 2020. وجاء في تحريات الأمن الوطني، أن ماهينور المصري انضمت إلى جماعة إثارية من داخل محبسها، دون وجود أدلة.

وتعد ماهينور المصري من أبرز المحامين الحقوقيين، وسبق أن تم اتهامها في ثلاث قضايا، الأولى هي قضية وقفة خالد سعيد والتي تم الحكم عليها فيها بالحبس 6 أشهر، والثانية هي قضية اقتحام  قسم شرطة الرمل، ونفذت الحكم الصادر بحقها الذي وصل إلى السجن لمدة عام وثلاثة أشهر، بينما القضية الثالثة والمعروفة بقضية تيران وصنافير، برَّأتها المحكمة من اتهام بالتظاهر بالمخالفة للقانون.

ورغم إخلاء سبيل المحامي السكندري محمد رمضان بكفالة بعد عامين من الحبس الاحتياطي على ذمة القضية 2018/16576 إداري المنتزه، فلم يتم تنفيذ قرار إخلاء سبيله، وتم نقله من قسم شرطة المنتزه بالإسكندرية إلى نيابة أمن الدولة العليا بالقاهرة، حيث تم التحقيق معه على ذمة قضية جديدة.[10]

وسبق أن صدر بحق رمضان حكم قضائي تعسفي بالسجن 10 سنوات، والإقامة الجبرية لمدة خمس سنوات، مع منعه من استخدام وسائل التواصل الاجتماعي لخمس سنوات أيضًا، بالإضافة إلى صدور حكم بتغريمه 50 ألف جنيه لاتهامه بالتظاهر في يونيو 2017، وذلك قبل صدور حكم ببراءته في هذه القضية.

وفي هذا الصدد تتجاهل نيابة أمن الدولة نص المادة (51) من قانون المحاماة رقم 17 لسنة 1983، والتي تنص على: “لا يجوز التحقيق مع محامٍ أو تفتيش مكتبه إلا بمعرفة أحد أعضاء النيابة العامة أو قاضي التحقيق في الأحوال التي يُجيز فيها القانون ذلك. وفي غير حالات التلبس، لا يجوز لمأمور الضبط القضائي احتجاز أو القبض على المحامي الموجه له اتهام بارتكاب جناية أو جنحة أثناء مباشرته حق الدفاع، ويتعين عرض الأمر فورًا على المحامي العام الأول لنيابة الاستئناف المختصة. ويجب على النيابة العامة أن تخطر مجلس النقابة أو مجلس النقابة الفرعية قبل الشروع في تحقيق أية شكوى ضد محامٍ بوقت مناسب. وللنقيب أو رئيس النقابة الفرعية إذا كان المحامي متهمًا بجناية أو جنحة خاصة بعمله أن يحضر هو أو من ينيبه من المحامين، التحقيق. ولمجلس النقابة، ولمجلس النقابة الفرعية المختص طلب صور التحقيق بغير رسوم.”

 لم يتم إخطار نقابة المحامين عند التحقيق مع أيٍّ من المحامين المحتجزين بمن فيهم محامي الإسكندرية، ولأن محاضر التحريات، وتفاصيل الاتهامات المنسوبة إلى أولئك المحامين لم تتم إتاحتها لفريق دفاعهم، يظل غير معلوم إن كانت هذه الاتهامات متصلة بعملهم أم لا.

في الوقت الذي وصل فيه عدد المحامين المحتجزين على خلفية عملهم في عموم البلاد منذ 2018 وحتى الآن، إلى 35 محاميًا على الأقل،[11] بينهم 6 سكندريون، تجدر الإشارة إلى أن محاميين اثنين من الإسكندرية، ماهينور المصري، ومحمد رمضان، من بين 7 محامين مصريين، حصلوا على الجائزة السنوية لمجلس النقابات القانونية الأوروبي، وما زال السبعة قيد الحبس الاحتياطي لفترات تراوحت بين عام وثلاثة أعوام.[12]

 خاتمة وتوصيات

 استعرض التقرير أنماط الانتهاكات التي يواجهها النشطاء السكندريين، في ظل توسع جهاز الأمن الوطني بمحافظة الإسكندرية في ملاحقة هؤلاء النشطاء، وتهدف مؤسسة حرية الفكر والتعبير من خلال إصدار هذا التقرير إلى إبراز هذه الحالات وحشد الجهود للإفراج عن المحبوسين احتياطيًّا، وفي هذا الصدد توصي مؤسسة حرية الفكر والتعبير بالآتي:

أولًا: على النيابة العامة إخلاء سبيل المحبوسين احتياطيًّا من نشطاء الإسكندرية الذين يعاقبون على التعبير عن آرائهم.

ثانيًا: على وزارة الداخلية ضمان نقل المحبوسين احتياطيًّا في عربات تتوفر بها التهويه والإضاءة ولا تفرض عليهم عناء بدنيًّا، التزامًا بالمعايير الدولية ذات الصلة.

ثالثًا: على النقابات المهنية وعلى رأسها نقابتا المحامين والصحفيين، تقصي أوضاع أعضائها المدرجين على ذمة قضايا أمن الدولة العليا، وتقديم الدعم القانوني لهم.

رابعًا: على النيابة العامة البت في شكاوى الاختفاء القسري المقدمة من نشطاء الإسكندرية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.