مركز مالكوم كير-كارنيغي للشرق الأوسط:
سياسة خارجية شاردة لمصر على غير هدى
الدور الإقليمي لمصر آخذٌ بالانحسار
أجرى مايكل يونغ بمركز مالكوم كير-كارنيغي للشرق الأوسط مقابلة مع الكاتب والصحفي المصري مهند صبري المقيم فى المنفى ببريطانيا للاطّلاع على رأيه حول الدور المصري في الصراع الأخير في غزة، وحول السياسات الإقليمية بشكل عام وجاء الحوار على الوجه التالى:
مايكل يونغ: يبدو أن دور السياسة الخارجية المصرية شهد أفولًا في الآونة الأخيرة، إذ تركّز جزء كبير من الاهتمام العالمي على دول الخليج وإيران. مع ذلك، أدّت القاهرة مؤخرًا دورًا مهمًا في تهدئة النزاع بين إسرائيل وحركة الجهاد الإسلامي في غزة. وعلى ضوء ذلك، كيف تصف مكانة مصر الإقليمية؟
مهند صبري: قد يرى كثرٌ أن الوساطة المصرية الأخيرة، التي ساهمت في وقف المواجهة العسكرية بين إسرائيل وحركة الجهاد الإسلامي في غزة، تشكّل مثالًا على الدور المهم والمتواصل الذي تؤدّيه مصر في المنطقة. لكن ما فعلته يشير في الواقع إلى عكس ذلك. فمنذ وصول عبد الفتاح السيسي إلى السلطة بعد انقلاب تموز/يوليو 2013، تضاءل الدور الذي تؤدّيه مصر في غزة خصوصًا وفي الصراع الفلسطيني الإسرائيلي عمومًا، إذ بات يقتصر فقط على تدخلها خلال الأعمال العدائية. كذلك، أصبح هذا التدخل مشروطًا بما إذا كان التوسّط في النزاع يتناسب مع المصالح المصرية، وليس انطلاقًا من الرغبة في الحدّ من الأعمال العدائية المسلحة وإنهائها، ما من شأنه أن يؤدي بالتالي إلى إحراز تقدم في عملية السلام. وإذ بات الدور المصري في القضايا الأساسية يقتصر على الجوانب السياسية، كادت أن تختفي الأبعاد الاقتصادية والإنسانية لتدخلاتها.
تُعتبر عملية إعادة إعمار غزة خير مثال على مدى تراجع الدور المصري اليوم، حتى حيال مسألة مرتبطة بحدودها. وبينما يُتوقع أن تكون مصر القوة الإقليمية البارزة في هذه القضية الجوهرية التي تؤثر في حياة ما يقارب مليونَي شخص في غزة، بدت السلطات المصرية عاجزة، وغير مستعدة على الأرجح، لاتخاذ أي خطوة فعّالة من شأنها جمع الأفرقاء الخارجيين وحثّهم على إطلاق عملية إعادة إعمار غزة، ناهيك عن تولي قيادة هذا المسعى.
يونغ: تلقّت مكانة مصر ضربةً نوعًا ما نتيجة انكفاء الولايات المتحدة عن المنطقة، نظرًا إلى أنها حليفتها الأساسية. ما التغييرات التي طرأت على العلاقة بين القاهرة وواشنطن، وما تأثيرات ذلك في مصر؟
صبري: واشنطن لا تتعاطى بشكل نشط مع الشأن المصري، ولا هي منكفئة تمامًا عنه، بل هي عالقة في دوامة من الإجراءات غير الفعّالة، مثل الإدانة اللفظية لسجل مصر في مجال حقوق الإنسان والتعليق المؤقت لجزء ضئيل من المساعدات العسكرية الأميركية، من دون بلورة أي سياسات واضحة. ونظام السيسي مرتاح جدًّا لهذا الوضع.
يبدو جليًّا أن نمط الإجراءات الأميركية غير الفعّالة تجاه النظام المصري على مدى الأعوام الثمانية الماضية، على غرار المساعدات العسكرية الأميركية المتواصلة لمصر وإشادة واشنطن بالتدخل المصري عند نشوب صراعات عنيفة بين غزة وإسرائيل، قد أقنع القاهرة بأن الولايات المتحدة لن تتخذ أي وقفة جديّة تجاه السلوك المصري. وسيبقى هذا الوضع على حاله حتى لو سجنت مصر آلاف المدنيين الأبرياء، بمن فيهم أبرز سياسيي البلاد، وبغض النظر عن سجل انتهاكاتها لحقوق الإنسان وقمعها مختلف أشكال الحياة العامة.
دفعت هذه السياسة الخارجية الأميركية غير الفعّالة تجاه مصر نظام السيسي إلى اللجوء إلى حلفائه الإقليميين، مثل إسرائيل والسعودية والإمارات. إذًا، لا تزال القاهرة تتلقى المساندة والدعم الإقليميَين من هذه الدول الحليفة بغض النظر عن الموقف الأميركي منها ومدى تراجع مكانة مصر الإقليمية.
يونغ: كيف تصف الاستراتيجية التي تنتهجها مصر حيال الصراع الفلسطيني الإسرائيلي؟ وما هي أولوياتها في التعامل مع هذه القضية؟
صبري: منذ تسلّم السيسي سدة الرئاسة، عانت مصر، ولا تزال، من غياب استراتيجية شاملة أو فعّالة حيال الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. ومن الواضح أن السيسي، على عكس الرئيس الراحل حسني مبارك، لا يعتبر هذا الصراع قضية مهمة لمصر، حتى لو طالت تداعياته شبه جزيرة سيناء. ويبدو أن الرئيس لا يُدرك أن دور مصر كدولة تسعى من أجل تحقيق السلام وإرساء الاستقرار الدائم، أمرٌ يعزّز مكانتها الإقليمية والعالمية.
تفتقر المقاربة التي تتّبعها مصر تجاه الصراع الفلسطيني الإسرائيلي إلى التبصّر، إذ إنها لا تركّز إلا على على غزة، وتبدو مدفوعةً بشكل شبه كامل بالعداء الذي تكنّه القاهرة لجماعة الإخوان المسلمين، وبالتالي لحماس. لقد أفقدت هذه المقاربة مصر مصداقيتها التي بنتها على مدى عقود مع مختلف السياسيين والفصائل الفلسطينية، وشوّهت سمعتها كطرف محايد.
أما نتيجة هذه الاستراتيجية الركيكة، لا بل المعدومة، فهي الجمود التام، ويتجلّى ذلك في غياب المفاوضات المباشرة أو غير المباشرة بين الفلسطينيين وإسرائيل، سواء على مستوى الحكومة أو على مستوى الفصائل. ويتجلّى أيضًا في الاستهتار الإقليمي بالقضية الفلسطينية على الرغم من موجة تطبيع العلاقات بين عدد من الدول العربية وإسرائيل، وفي توقف الإنجازات المحدودة، مثل عمليات تبادل الأسرى أو رفع الحصار جزئيًا عن غزة.
يونغ: استأنفت حركة حماس علاقاتها مع إيران، بيد أنها لا تزال حريصةً على عدم الدخول في مواجهة مع مصر. هل يمكنك الإضاءة على المفارقات التي تنطوي عليها العلاقة بين مصر وحماس؟
صبري: إن العلاقة بين حماس ومصر هي حصيلة مزيجٍ فريد من التفاهمات التاريخية، والمصالح المتبادلة على المستويَين السياسي والأمني، ووجهات النظر المتضاربة التي ترقى في بعض الأحيان إلى مستوى العداء الصريح، وتندرج كل هذه العوامل في إطار جغرافي ضيّق لن يتغيّر. لكن الاستقرار التاريخي الذي لطالما تميّزت به هذه العلاقة المليئة بالمفارقات بين حماس ومصر تزعزع كليًا بعد وصول السيسي إلى سدة الرئاسة. فهذه العلاقة لم تنقطع خلال الحروب المتكررة بين غزة وإسرائيل، وأدّت إلى تحقيق إنجازات نادرة إنما استثنائية، مثل إطلاق سراح جلعاد شاليط من قبضة حماس في اتفاق تبادل الأسرى في العام 2011.
واقع الحال أن إعلان النظام المصري الحرب على حماس بعد العام 2013 أدّى إلى زعزعة هذه العلاقة. فقد اتّهمت القاهرة حماس بانتهاك سيادة مصر عمدًا وتنفيذ هجمات إرهابية على أراضيها، ثم انحازت إلى إسرائيل في حرب العام 2014. وتزعزعت هذه العلاقة أكثر نتيجة عدم قدرة النظام المصري على صياغة استراتيجية شاملة تجاه الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، واتّخاذه موقفًا متعجرفًا وغير مدروس حيال القضايا المعقدة المرتبطة بالاستقرار الإقليمي.
كانت حماس ولا تزال حريصةً على عدم خوض مواجهة مع القاهرة، ولا سيما منذ أن أدرك نظام السيسي أن خطواته العدائية بحق حماس أثبتت عدم جدواها. وللمفارقة، إن بعض الشخصيات البارزة في الحركة، والتي كانت متهمة بضلوعها في اغتيال مسؤولين مصريين، أو ارتكاب مذابح بحق جنود مصريين في سيناء، قد عادت الآن لزيارة القاهرة. ومن غير المتوقع أن تتخذ مصر أي خطوات ضد حماس بسبب استئناف علاقتها مع إيران، أقلّه ليس فورًا وبالتأكيد ليس علنًا.
يونغ: كيف تنظر مصر إلى علاقتها مع دول الخليج، وتحديدًا مع السعودية والإمارات، بغضّ النظر عن التصريحات العلنية عن ودية العلاقة؟
صبري: إن علاقة مصر مع كلٍّ من السعودية والإمارات هي ببساطة علاقة قائمة على المصلحة الصرفة. فالسيسي بحاجة إلى دعم مالي مستمر من الدولتَين الخليجيتَين لإنقاذه من مأزقه الاقتصادي وضمان سلامة حكمه. وتسعى السعودية والإمارات إلى توسيع نطاق وجودهما الاقتصادي في مصر، الدولة الأكثر اكتظاظًا بالسكان في المنطقة، ولإبقاء مكانة مصر الإقليمية محدودة وبالتالي عدم تهميش دورهما، ولإلغاء إمكانية حدوث تغيّر ما في السلطة قد يؤدي إلى تولّي نظام غير خاضع كليًّا لهما سدة الحكم.
ما زالت هذه الديناميكيات قائمة، وقد بدأت مع تنازل السيسي عن جزيرتَي تيران وصنافير للسعودية، على الرغم من أن محاكم عدة شكّكت في قانونية هذا القرار. وتبدو هذه الديناميكيات واضحةً للعيان أيضًا من خلال تيسير الحكومة المصرية استحواذ الإمارات والسعودية على مصانع وشركات وطنية كبرى تابعة للقطاع العام عن طريق صفقات أُبرمت في الغالب ضمن شروط مُبهمة وبتكاليف منخفضة على نحو يصعب تفسيره.
وعلى الرغم من الطبيعة المُربحة جدًّا لهذه العلاقة لجميع الأطراف المعنية، ولا سيما السيسي الذي يدرك بوضوح أن استقرار حكمه واستمراره يعتمدان إلى حدٍّ بعيد على سخاء دول الخليج، لا بدّ من الإشارة إلى أنها تفتقر إلى الاحترام المتبادل بين الجانبَين ولا تحظى بالشعبية في صفوف المواطنين المصريين ولا الخليجيين. سلّطت وسائل الإعلام الضوء على هذه الدرجات المتدنّية من الولاء من خلال نشر أو بثّ تسريبات لحوار ضمّ السيسي حين كان وزيرًا للدفاع وسخر فيه من ثروة دول الخليج، ما أثار موجة من الغضب الشعبي في أوساط إعلاميين بارزين في الخليج لم يتوانوا عن إدانة السيسي علنًا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.