القبض على فتيات التيك توك...
هل يتعلق الأمر ببروباغندا سياسية تنتشر في الدول الاستبدادية لتشتيت انتباة الناس واشغالهم عن القضايا السياسية والاقتصادية الأساسية المهمة التي يعانون منها و قوانين وتعديلات القضاء على الحريات العامة والديمقراطية وتطويع جمل مطاطة عن الأسرة وقيم المجتمع لمحاولة احتواء أتباع جماعة الاخوان الإرهابية؟
يحيلنا حكم المحكمة المصرية في القضية التي عرفت بـ"فتيات التيك توك" قبل أسبوع، إلى مصرين، مصر قديمة ومصر جديدة، أو إلى قطيعة بين مصرين تختلف بينهما قيم الأسرة المصرية وأخلاقياتها. ففتيات التيك توك اللواتي حصدن شهرة كبيرة بين المواطنين المصريين من خلال الفيديوهات التي نشرنها، لم يكنّ في وضع يخدش الحياء، ولم يبدُ من أجسادهن إلا القليل، ولم يقمن بأي عمل يخدش الحياء، كنّ مجرد فتيات حسناوات، يقمن بحركات أمام الكاميرا، ويتكلمن بضع كلمات غير مهمة لجذب أكبر عدد من علامات الإعجاب، وهذا ما يؤدي بهن إلى الشهرة، فكلما زاد عدد المشاهدين والمعجبين ازدادت شهرة فتاة التيك توك، وربما جذبت إعلانات إلى صفحتها ما يؤدي إلى حصولها على مكافأة مالية تكبر وتصغر بحسب عدد هذه الإعلانات. ومع ذلك قامت المحكمة المصرية بالحكم عليهن بالسجن سنتين مع غرامة مالية تقارب الـ19 ألف دولار بدعوى "خدش الحياء" و"التعدي على القيم والمبادئ الأسرية في مصر"، وهن حنين حسام، وريناد عماد، ومنار سامي، ودينا. هذه مصر الأولى.
أما مصر الثانية، التي يقطع معها حكم المحكمة وكأنها لم تكن موجودة، أو لكأنها مصر التفلّت من القيم الإجتماعية، وتدمير الأسرة فهي مصر أفلام "الأبيض والأسود"، وأفلام السبعينيات والثمانينيات الملّونة، التي لم تكن فيها قبلة الشفتين بين الممثلين محرّمة، والتي كانت فرق الرقص فيها ترتدي فتياتها ما قلّ من الملابس، ونجماتها يرتدين المايوه على الشاطئ، وكانت هذه الأفلام تخرّج نجمات شهيرات في الرقص الشرقي كسامية جمال، وتحية كاريوكا، ودينا، وتشتهر منهن نجمات الإغراء كزبيدة ثروت، وهند رستم، ونادية لطفي، ومن بعدهن معالي زايد وليلى علوي، وغيرهن كثيرات.
إذاً يقوم حكم المحكمة بالفصل بين مصر الجديدة المتصلة بعالم الإنترنت، ومصر القديمة المزدهرة في عالم السينما. فالإغراء في السينما طبيعي في زمنه وفي ظروفه الاجتماعية والسياسية، بينما إغراء الإنترنت مهما كان ضئيلاً فإنه يوهن "نفسية المجتمع والأمة". يعيد بعض المتابعين، ونجوم وسائل التواصل ومتخصصون في علم الاجتماع هذا الفرق إلى أسباب ثلاثة.
آراء مختلفة وصائبة
يقول البعض إن الأمر يتعلق ببروباغندا سياسية تنتشر في دول العالم الثالث وخلال الأزمات، وهي في تحويل الانتباه عن القضايا الأساسية، والمهمة للدولة-الأمة، نحو أمور أقل أهمية، ولكن بامكانها صناعة جدل في المجتمع، وانقسام وضجيج يمكنه التغطية على الأمور المصيرية الأخرى. وفي حالة مصر اليوم، موضوع سدّ النهضة الذي بدأت أثيوبيا بملئه على نهر النيل من دون الأخذ باعتراضات الدولة المصرية، وهناك موضوع التدّخل التركي في ليبيا قرب الحدود المصرية من دون أن تحرّك مصر ساكناً سوى التهديد الكلامي. وبرأي هؤلاء، فإن مثل هذه المحاكمات لفتيات التيك توك دائماً ما تنجح بحرف انتباه الجمهور وإشغاله بمواضيع سجالية أخرى.
الرأي الثاني يقول إن الأمر طبيعي في مجتمع متدين كالمجتمع المصري، ولطالما تلقّت وسائل الإعلام المختلفة اعتراضات مشابهة، فعندما انتشر الراديو في البيوت المصرية، برز كثيرون لذم هذه الآلة الجديدة، ثم حدث الأمر مع انتشار التلفزيون، الذي ظهرت فتاوى بتحريم مشاهدته في حينه، لكونه سبباً في اللهو والابتعاد عن الدين والعبادة، ولكونه يفكك الأسرة ويؤدي إلى تلقي صور ورسائل تخالف الأعراف والتقاليد. وهذا ما ينطبق اليوم على وسائل التواصل الاجتماعي التي باتت مجتمعاً متكاملاً لجيل الشباب يعبّر من خلالها عن كل ما يخطر بباله. وبهذا فإنها تسقط السلطات الرقابية والقمعية وتضعفها، إذ إن حدود ضبطها غير معينة وليست سهلة، وهذا ما يحدّ من السلطة الأبوية والذكورية في المجتمع، ما يؤدي إلى وقوع البنات والفتيات تحت سلطة القمع القانوني على خلاف الذكور، الذين يقدمون على قول وتصوير ما هو أفدح اجتماعياً، ولكن من دون أي ملاحقة أو إدانة، إلا فيما يتعلق بالناشطين السياسيين المؤثرين.
الرأي الثالث يعتبر أن السبب يكمن في وسائل التواصل الاجتماعي نفسها. فهذه الوسائل تختلف عن التلفزيون والسينما بأنها تفتح المجال للمتلقي بالمشاركة، وإبداء رأيه، ما يجعل غرفة النجمة "الإنترنتية" وكأنها غرف الجميع، ويجعل تحركاتها، وتنقلاتها، وكيفية تأديتها لأمورها تحت نظر وتلقي ومشاركة كل متابعيها الذين غالباً ما يزيدون على المليون. وهكذا تمنح وسائل التواصل نجمها (أنثى أو ذكراً) قدرة على التأثير في المتابعين من جهة أنماط حياتهم، وآرائهم. هذه القدرة ليست في متناول السلطات الحاكمة، ومن خلفها السلطات الرقابية. لذا يكون "القبض" على "مجرم" إنترنتي، بمثابة "اللقية" والهدية للسلطات الرقابية، ولو أتى اتهامه تحت أسباب واهية وسخيفة وغير منطقية. ولكن معاقبة نجم ستؤدي إلى قمع الملايين من الجمهور. إنها ضربة "العصفورين بحجر واحد".
حائط مبكى الإنترنت
الدليل على أن هذا النوع من العقاب الذي يقع على نجوم شبكة التواصل الاجتماعي، هو مجرد إعادة تكريس لسلطة الرقابة التي تحدد بدورها ماهية "الأخلاقيات والقيّم"، على شبكة الإنترنت التي تكاد تنفلت من كل قيود مؤسساتية معروفة، هو أن هذه المؤسسات الرقابية سلطوية أو قضائية أو أمنية، لا تأخذ على محمل الجد ظاهرة التحرّش الجسدي بالفتيات في الشوارع المصرية، التي تكاد تكون ظاهرة اعتيادية على الرغم من خروجها عن أي مألوف أخلاقي اجتماعي. وتتغاضى هذه السلطات عن حرمان الإناث من ميراثهن الشرعي، أو زواج القاصر، أو اعتبار ضرب الزوج للزوجة شأناً منزلياً داخلياً خاصاً، وكذلك غض النظّر عن ختان البنات الساري المفعول حتى اليوم على الرغم من تجريمه من قبل الأمم المتحدة، وكل منظمات حقوق الإنسان.
وكما كتبت الزميلة أمينة خيري من مصر في "اندبندنت عربية" في 31 مايو (أيار) 2020 في مقالتها بعنوان "التيك توك الحائر بين "غضب الله" ولغة الشباب وتربص المثقفين"، "لأن حوائط المبكى في زمن الثورة الرقمية، وتقنية المعلومات، والإتاحة غير المسبوقة للاتصال بشبكة الإنترنت، ومواقع تواصلها الاجتماعي عديدة ومتشعبة، ولأن المجتمع غارق منذ سبعينيات القرن الماضي في غياهب شكل حداثي من أشكال التديّن قائم على تصنيف المواطنين على مقياس التدين بحسب نوع الملابس، وهوية المفردات المستخدمة وعدد مرات التردّد على دور العبادة، فقد وُضِع التيك توك بمحتواه تحت مجهر التقييم الأخلاقي الشعبوي الذي يلمس، ويتلامس ويمس التفسيرات الشعبية للدين الرائجة على مدار نصف القرن الماضي".
هل من مستقرّ؟
المشكلة في التكنولوجيا نفسها أم في جمهور مستخدميها؟
تكنولوجيا الإنترنت، ووسائل التواصل الاجتماعي هي أدوات، كأي أداة يمكن استخدامها بشكل حسن أو بشكل سيء، من أجل عمل شرير أو عمل صالح، لنقل إنها كسكين المطبخ التي نقطع بها الخضار، والتي يمكن أن تصبح أداة قتل. إذاً المشكلة ليست في الأداة نفسها بل بمستخدمها. لكن كيف نعرف أو نحدّد إذا ما كان مستخدم شبكات التواصل الاجتماعي يخالف القوانين الاجتماعية والأخلاقيات العامة؟ هنا تكمن المشكلة الكبرى. فتحدي الأخلاقيات العامة حين يخرج عن تحديد القانون يدخل تحت سلطة المزاج العام، وهذا ما ينطبق على وسائل التواصل. فالجمهور العريض هو الذي يحدد ما هو الصحيح من الخطأ، والشرير من الخيّر، والأخلاقي من غير الأخلاقي، إذ إن القوانين في العالم العربي لم تواكب حتى الآن التعريفات المذكورة آنفاً. بل وفي حال صدرت القوانين في هذا الخصوص فإنها ضبابية ومطّاطة ويمكن تفسيرها كلٌّ بحسب رغبته. فعلى سبيل المثال، حين يتهم قاضي المحكمة المصرية "فتيات التيك توك" بمخالفة "قيم الأسرة المصرية"، فما الذي تعنيه هذه التهمة؟ ومن الذي يحدّد ما هي القيم التي تسير وفقها الأسرة المصرية، أو أي أسرة في مجتمع متعدد الثقافات والطبقات والعرقيات والأديان. ثم إن ما يمكن اعتباره أخلاقياً لشخص قد يكون غير ذلك لشخص آخر، وما يمكن افتراضه طبيعياً لشخص قد يكون لاعقلانياً لآخر… إلخ.
قد يكون الأمر طبيعياً في معمعة ثورة الاتصالات، وسيطرة العالم الافتراضي على العالم الواقعي، واتجاه جيل من الشباب برمته إلى عالم التواصل الاجتماعي للتعبير عما يعتمل في نفسه. قد تكون هذه حالة ضياع طبيعية للسلطات التنفيذية الحاكمة في الدول العربية ريثما ترسو على قوانين وتشريعات وتعريفات واجتهادات محددة لما يعتبر جريمة، ولما يعتبر طبيعياً على شبكة الإنترنت. أي أنها مرحلة وستمر.
لكن الطامة الكبرى ستكون في حال بقي هذا الضياع والتخبط مستمران من دون أن يرسيا على وضوح، خصوصاً أن عالم الإنترنت يبدو كتسونامي لن يتوقف عند شكل محدد قريباً، بل يبدو أن "اللاشكل" الذي يتمتع به العالم الإفتراضي هو أحد صفاته الرئيسة وسبب تطوّره. حينها ربما تصبح المحاكم، وسلطات الرقابة شكلاً يثير الضحك أو السخرية والإستهزاء مع مرور الزمن، إذ إنها ستصبح هي نفسها خارج النسق الطبيعي لسيرورة ومسيرة الحياة.