مؤسسة حرية الفكر والتعبير :ازدراء الأديان.. ذريعة لقمع الحرية الأكاديمية
موقع مؤسسة حرية الفكر والتعبير / تقرير حقوقي صادر بتاريخ الاربعاء 30 ديسمبر 2020 / مرفق الرابط
منهجية
اعتمد التقرير على تقارير إعلامية وبيانات منشورة في مواقع صحفية، بشأن إحالة أساتذة الجامعات إلى التحقيق باتهامات تتعلق بازدراء الأديان، إضافة إلى مقابلة أجراها الباحث مع أحد أساتذة الجامعات. كما اعتمد التقرير على استعراض وتحليل القوانين ذات الصلة. ويغطي التقرير الفترة من عام 2014 إلى عام 2020.
مقدمة
تطورت القضايا المعروفة بازدراء الأديان تاريخيًّا في مصر بداية من مسماها القديم: “قضايا الحسبة”، إلى النص الحالي المتضمن في المادة 98 من قانون العقوبات المصري، والتي استحدثت بعد ما عرف بـ”أحداث الفتنة الطائفية بالزاوية الحمراء”، في عام 1981. تقدمت حينها الحكومة بمشروع قانون لتعديل عدد من مواد قانون العقوبات، وإضافة مواد أخرى، منها مواد تتعلق بتغليظ العقوبة المنصوص عليها في المادة 160، المتعلقة بالحق في ممارسة الشعائر الدينية بعيدًا عن أعمال العنف، وتعديل المادة 201 الخاصة بتجريم إساءة استخدام خطاب ديني. وكان الهدف من هذه التعديلات هو معاقبة رجال الدين الذين “يسيئون استخدام الخطاب الديني” للتحريض على أعمال عنف وتهديد أمن المواطنين، ولكن بعد سنوات تم توسيع نطاق التجريم، ليشمل كل المواطنين بدلًا من رجال الدين فقط.
عندما قدمت الحكومة هذه التعديلات، كانت المادة 98 تنص على أنه “يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن 6 أشهر ولا تتجاوز خمس سنوات أو بغرامة لا تقل عن خمسمائة جنيه ولا تجاوز ألف جنيه كل من استغل الدين في الترويج أو التحبيذ بالقول أو الكتابة أو بأية وسيلة أخرى لأفكار متطرفة لقصد إثارة الفتنة أو تحقير أو ازدراء أحد الأديان السماوية أو الطوائف المنتمية إليها أو الإضرار بالوحدة الوطنية والسلام الاجتماعي أو تكدير الأمن العام، ويعاقب بذات العقوبة المنصوص عليها في الفقرة الأولى كل من حاز بالذات أو بالواسطة محررات أو مطبوعات أو تسجيلات تتضمن ما ذكر..”، ولكن تم حذف الفقرة الثانية من هذه المادة أثناء عملية إقرار مشروع القانون، لما تمثله من قيد على حرية الأفراد المكفولة طبقًا للدستور، كما حُذفت عبارة: “أو تكدير الأمن العام”[1]، لعدم إمكانية تحديد معناها على نحو دقيق. وتضمن نص المادة النهائي اصطلاحين يحملان نفس الالتباس وهما: “الإضرار بالوحدة الوطنية والسلام الاجتماعي”.
وجرى التوسع في استخدام تهمة “ازدراء الأديان” ضد من يعبِّرون عن آراء مخالفة للمعتقدات السائدة في المجتمع، سواء كان ذلك نقدًا للأديان أو الإيمان بملل وطوائف غير منتشرة داخل المجتمع، أو تعبيرًا حرًّا عن الرأي، طالما اقترب ولو من بعيد من الأديان السماوية. وأصبح من الممكن أن يؤدِّي أي عمل _حتى لو كان عملًا أدبيًّا أو علميًّا_ بصاحبه إلى الحبس بتهمة ازدراء الأديان.
وتعد قضية نشر كتاب “الشعر الجاهلي” من أشهر القضايا المتعلقة بازدراء الأديان، التي وجهت فيها الاتهامات إلى أكاديميين، حيث حققت النيابة العامة مع الدكتور طه حسين، عميد الأدب العربي والأستاذ بقسم اللغة العربية بكلية الآداب جامعة القاهرة، على خلفية نشره كتاب “الشعر الجاهلي”، بعد اتهامات أثارها رجال الدين. واستمرت التحقيقات حينها لمدة تقارب عشرة أشهر، حتى أصدرت النيابة قرارها بحفظ التحقيق. وبرَّأ النائبُ العام الدكتورَ طه حسين من الطعن في الدين الإسلامي، وجاء في حيثيات القرار أن ما ذكره طه حسين في الكتاب كان في سبيل البحث العلمي لا غير[2]. وأثنى النائب العام على مجهود الدكتور طه حسين العلمي، وقال: “إن للمؤلف فضلًا لا ينكر في سلوكه طريقًا جديدًا للبحث حذا فيه حذو العلماء الغربيين”.
ويرصد هذا التقرير تطور قضايا اتهام الأكاديميين بازدراء الأديان خلال السنوات الأخيرة، وما ارتبط بذلك من تحول إدارات الجامعات ووزارة التعليم العالي والبحث العلمي إلى دور الرقيب الأول على أفكار أساتذة الجامعات، بدلًا من ضمان الحرية الأكاديمية واستقلال الجامعة عن تدخلات مؤسسات أو مجموعات من خارجها.
أولًا: حالات اتهام أعضاء هيئات التدريس بازدراء الأديان:
يتناول التقرير حالات اتهام أعضاء هيئات تدريس بازدراء الأديان أو الرموز الدينية، ويضم ما رصدته مؤسسة حرية الفكر والتعبير، من خلال التقارير الإعلامية والمقابلات، ولذلك فإنه قد تكون هناك حالات أخرى لم توثقها المؤسسة. ولا تتوقف الاتهامات التي توجه إلى أعضاء هيئة التدريس في ما يتناولونه بالبحث والنشر والتدريس على الأديان نفسها، إنما تمتد الاتهامات إلى الرموز الدينية، التي تراها بعض إدارات الجامعات غير قابلة للنقد.
في بداية مايو 2018، أوقفت جامعة دمنهور الأستاذ بقسم التاريخ بكلية التربية أحمد رشوان عن العمل لمدة ثلاثة أشهر، بعد إحالته إلى التحقيق على خلفية تدريسه كتاب: “دراسات في تاريخ العرب المعاصر”، والذي وصف فيه رشوان الشيخ محمد متولي الشعراوي والداعية عمرو خالد بالدجالين.
وجاء في الكتاب الذي يتناول عهد الرئيسين محمد أنور السادات وحسني مبارك:
“شهد عهدهما ظهور أكبر دجالينِ في تاريخ مصر الحديث، وهما الشيخ الشعراوي وعمرو خالد واللذان عملا بكل قوة عن قصد أو بغير قصد في تغذية روح الهوس الديني لدى الشعب المصري، وتدعيم التيار الإسلامي السياسي، وهكذا سيطر الإسلام السياسي وامتد حتى سقوط الاتحاد السوفيتي”.
قرر الدكتور عبيد صالح[3]، رئيس جامعة دمنهور، إحالة الأستاذ إلى التحقيق الفوري بتهمة سب وقذف الشعراوي وخالد، مؤكدًا أن الجامعة ليست ساحة لتصفية الحسابات السياسية والتعبير عن الرأي الشخصي والتقليل من الآخرين والنيل منهم، وخاصة الرموز.
وعلى خلفية ذلك، ندد أمين سر لجنة الشؤون الدينية بمجلس النواب، الدكتور عمرو الحمروشي، بالواقعة، وقال إنه سيتقدم إلى رئيس مجلس النواب بطلب عاجل لسرعة إصدار قانون تجريم إهانة الرموز الوطنية، كما طالب وزير التعليم العالي بتشكيل لجنة علمية محايدة لمراجعة الكتب الجامعية بالتنسيق مع أساتذة الجامعات: “وذلك لمواجهة تسريب أي أفكار شاذة أو متطرفة إلى الطلاب مما يشكل خطرًا داهمًا على مقومات الأمن القومي المصري”.
لم يتوقف رئيس لجنة الشؤون الدينية في مداخلته بالمجلس عند حدود واقعة الدكتور رشوان، وإنما سعى إلى العصف بأبسط معاني الحرية الأكاديمية والتضييق على حق الأساتذة في البحث والنشر والتدريس عن طريق تشكيل لجان لما ينشره ويدرسه الأساتذة في الجامعات.
وقال الدكتور رشوان في مقابلة مع باحث بمؤسسة حرية الفكر والتعبير[4]: “كنت قد ألغيت هذا الفصل من الكتاب ولم أدرسه للطلاب. ما حدث أن إحدى الطالبات عرضت على أبيها _وهو شيخ بالأزهر_ ما جاء بالكتاب، ما دفعه إلى الاتصال برئيس الجامعة وإخباره. رئيس الجامعة بدوره اتصل بالإعلام وصعَّد الموضوع، وأحالني للتحقيق. على خلفية ذلك عقد اجتماع لمجلس القسم وقيل في محضر الاجتماع أن مجلس القسم يحترم الأزهر وعلمائه. بعد اجتماع مجلس القسم في 2 مايو اصطحبتني عميدة الكلية إلى رئاسة الجامعة لحضور التحقيق، دون إبلاغ رسمي، حضرت التحقيق أمام الدكتور أشرف شيحة وكيل كلية الحقوق بجامعة طنطا والمستشار القانوني لرئيس جامعة دمنهور“.
أصدر الدكتور عبيد صالح، رئيس جامعة دمنهور قرارًا بإيقاف الدكتور رشوان لمدة ثلاثة أشهر عن العمل[5]. وتُعد هذه الواقعة نموذجًا واضحًا على خضوع الجامعات لضغوط مجتمعية تؤثر سلبًا على حرية البحث العلمي والتدريس، في ظل غياب أي حماية من إدارات الجامعات لأعضاء هيئات التدريس في تدريس ما يرونه مناسبًا، طالما كان يستوفي المبادئ العلمية المطلوبة. حيث سعت الجامعة إلى إحالة الدكتور إلى التحقيق دون أن تتحقق أولًا من استخدامه منهجًا علميًّا سليمًا في كتابه من عدمه.
وفي أكتوبر 2016، أوقفت جامعة الأزهر الأستاذ بكلية أصول الدين يسري جعفر[6]عن العمل لمدة ثلاثة أشهر، بقرار من رئيسها، لاتهامه بالإلحاد ومحاولة إحياء فكر محمد عبده وطه حسين، والهجوم على التيار الإسلامي، ووصفه بالتيار الظلامي، وشكلت الجامعة لجنة تحقيق قامت بتوجيه أسئلة إلى جعفر حول محتوى محاضراته وآرائه العلمية ورؤيته للأزهر، ووجهت إليه عدة اتهامات، منها الدعوة إلى الإلحاد وانتقاد صحيح البخاري، ودعوته إلى تعديل المناهج الأزهرية، ما نفاه جعفر حيث وضَّح أنه يدعو إلى التنوير.
وأصدرت جامعة الأزهر[7]، في 13 يونيو 2018، قرارًا بإيقاف الدكتور جمال محمد سعيد عبد الغني، أستاذ العقيدة والفلسفة بكلية أصول الدين في المنوفية، عن العمل لمدة ثلاثة أشهر بعد إحالته إلى التحقيق الإداري بسبب اتهامه “بالتشيع”. وقالت الجامعة في بيان لها إن الأستاذ الجامعي منسوب إليه الانتماء إلى الجماعة الأحمدية القطيانية الشيعية، وسبق اعتبار هذه الجماعة من العناصر المرتدة عن الدين الإسلامي، وقالت إن قرار إيقافه كان حرصًا على مصلحة الطلاب وحمايتهم من أصحاب الفكر المنحرف.
تظهر هذه الوقائع انتهاك جامعة الأزهر الحرية الأكاديمية باستخدام قرارات إيقاف الأستاذين عن العمل، ولم تراعِ أي أسس علمية في تناولها العمل الأكاديمي، بل إنها تدخلت في معتقد الأستاذ الجامعي جمال عبد الغني. ولم تُشِر الجامعة إلى مخالفات أكاديمية، واكتفت بذرائع حماية الطلاب من أصحاب الفكر المتطرف.
في نوفمبر 2020، تم إيقاف الأستاذ بالمعهد العالي للخدمة الاجتماعية بالإسكندرية محمد مهدلي عن العمل،[8] بعد إحالته إلى التحقيق على خلفية انتشار مقطع مصور، يُظهر نقاشًا بينه وبين طلابه في إحدي المحاضرات، اتهم بسببه بالإساءة للإسلام. بينما قالت وزارة التعليم العالي إنها تلقت شكوى من طلاب بالمعهد، قررت بعدها إيقاف الأستاذ محمد مهدلي إلى حين الانتهاء من التحقيق في الواقعة.
وبحسب تصريحه لبي بي سي عربي[9]، فإن المقطع المنتشر تم اجتزاؤه من سياقه وأنه لم يقصد أي إساءة. وأكمل: “فسر البعض ما قلت بأنه إساءة للدين الإسلامي، أنا مسلم وأحترم جميع الأديان. وأقدم اعتذاري لأبنائي الطلاب ولكل من شعروا بإهانة مما قلت”. وقال مهدلي إنه في محاضرته عن المجتمع الريفي والحضري تناول أمثلة عن الزواج والطلاق وأن ما صدر منه ردًّا على استشهاد أحد الطلاب بآية قرآنية كان “تجاوز غير مقصود، خانتني فيه كلماتي في لحظة انفعال وجدل حاد”.
وكان قد انتشر مقطع مصور من إحدى محاضرات مهدلي يتحدث فيه عن مهر الزواج في الإسلام، واعترض أحد الطلاب على طرح الأستاذ، مستشهدًا بآية قرانية، لينفعل مهدلي ويطرد الطلاب المعترضين خارج القاعة. وقال المتحدث باسم وزارة التعليم العالي حسام عبد الغفار، إن مهدلي أحيل إلى تحقيق إداري تجريه لجنة من أساتذة كلية الحقوق بجامعة الإسكندرية. وأضاف أن الوزارة تلقَّت شكوى من الطلاب قررت على خلفيتها إيقاف الأستاذ حتى صدور نتيجة التحقيق خلال 48 ساعة.
وبعد عرض نتيجة التحقيق الذي أجراه الدكتور فايز محمد حسين وكيل كلية الحقوق بجامعة الإسكندرية الذي انتهى بإقرار مهدلي بصحة الوقائع الموجودة في مقطع الفيديو المنتشر، قررت وزارة التعليم العالي[10] إحالة الواقعة إلى النائب العام للتحقيق في ارتكاب الدكتور مهدلي جرائم ازدراء الأديان، وإهانة ثوابت الشريعة الإسلامية، وسب الطلاب _كما ورد في نص التحقيق_ كما أحال وزير التعليم العالي مهدلي إلى مجلس تأديب المعاهد العليا الخاصة مع استمرار وقفه عن العمل. ومن جهة تحقيقات النيابة فقد تقرر حبس[11] الدكتور محمد مهدلي 4 أيام على ذمة التحقيقات في اتهامه بازدراء الأديان وتحليل زواج المحارم. توفى مهدلي، في 24 ديسمبر 2020، إثر تدهور حالته الصحية.
وفي ظل التوسع في الرقابة على الحرية الأكاديمية، بدأ الطلاب في تصيد ما يعتبرونه إساءة للأديان، ومع استجابة الجامعة لشكاوى الطلاب، فهي لا توفر مناخًا يسمح بالمناقشة الحرة بين الطلاب والأستاذ ويحمل الأساتذة على مزيد من الرقابة الذاتية على ما يتناولون من آراء وموضوعات علمية داخل قاعات الدراسة. ويعد ما فعله وزير التعليم العالي بتحويل التحقيق إلى النيابة العامة انتهاكًا صارخًا لقيمة الحرية الأكاديمية وحق الأساتذة في المناقشة الحرة داخل المحاضرات، وكان على إدارة معهد الخدمة الاجتماعية بالإسكندرية أن تكتفي بالتحقيق في احتداد الأستاذ مهدلي على طلابه، وطردهم من قاعة المحاضرات، لأن في ذلك ما يمنع النقاش العلمي الحر مع الطلاب.
وفي جامعة قناة السويس، أصدر الدكتور السيد عبد العظيم الشرقاوي قرارًا رقم 187 بتاريخ 15 مايو 2018 بعزل منى البرنس أحمد رضوان المدرس بقسم اللغة الإنجليزية بكلية الآداب[12]، من وظيفتها مع احتفاظها بالمعاش أو المكافأة، بعد تحقيقات استمرت 14 شهرًا، بدأت بإحالة البرنس إلى التحقيق لتواجه عدة تهم، من بينها نشرها مقاطع فيديو لها وهي ترقص على مواقع التواصل الاجتماعي، بالإضافة إلى السفر دون إذن الجامعة، والتهمة الأهم هنا هي “العيب في الذات الإلهية والحديث مع الطلاب في المعتقدات الدينية”، حسب ما جاء في التحقيقات التي أجراها مع البرنس عميد كلية الحقوق بجامعة المنصورة.
كان اتهام البرنس بازدراء الأديان بسبب تدريسها نصًّا من القرن السابع عشر وهو “الفردوس المفقود” للأديب الإنجليزي جون ملتون، وهي قصيدة ملحمية تبدأ بخروج “آدم وحواء” من الجنة، وقد ردت عليه أستاذة الأدب الإنجليزي قائلة: “لم يحدث أن قمت بالإساءة إلى الأديان داخل الجامعة على الإطلاق”. كما ذكر المحامي مهاب سعيد[13] الذي حضر التحقيق مع البرنس، أن تطرق دكتور منى البرنس إلى نص “الفردوس المفقود” كان من منطلق أدبي وأكاديمي إذ طلبت من طلابها أن يقارنوا بين النص وبين نصوص عربية مثل رواية أولاد حارتنا لنجيب محفوظ، وقصيدة كلمات سبارتكوس الأخيرة للشاعر أمل دنقل. مضيفًا أن تلك النصوص لم تسئ لأي دين ولم يعاقَب مؤلفوها، بينما تُعاقَب البرنس على تدريس تلك النصوص.
اتهمت جامعة قناة السويس دكتورة منى البرنس بناءً على تدريسها نصوصًا أدبية بحتة تُقرأ وتُدرس في كل مكان وغير ممنوع مناقشتها أو تدريسها بأي شكل، إنما أصبح مجرد تناول أي موضوع يتصل بالأديان من قريب أو بعيد قد يعرِّض عضو هيئة التدريس لخطورة اتهام ازدراء الأديان وفقد وظيفته.
لم يتوقف التدخل فيما يتناوله أساتذة الجامعة عند حدود الإسهام العلمي أو ما يتم تناوله في قاعات التدريس أو الكتب وإنما امتد إلى الآراء الشخصية على مواقع التواصل الاجتماعي. ففي جامعة الزقازيق[14]، أصدر الدكتور خالد عبد الباري، رئيس الجامعة، قرارًا رقم 1620 لسنة 2017، في 22 أغسطس، بوقف الدكتور ماهر المغربي، أستاذ الأمراض النفسية والعصبية بكلية الطب، عن العمل لمدة ثلاثة أشهر وإيقاف صرف ربع راتبه مع إحالته إلى مجلس تأديب ومنعه من دخول الجامعة إلا لحضور جلسات التحقيق بسبب نشره على موقع التواصل الاجتماعي “فيس بوك” عبارات مسيئة إلى الدين الإسلامي، حسب بيان كلية الطب بالجامعة. وذلك رغم نفي المغربي كتابة المنشورات المنسوبة إليه، حيث قال إنه تجاهل صفحته على “فيسبوك” من عام 2014، لعدم درايته بأمور الإنترنت.
وللطلاب أيضًا نصيب من سوط تهمة ازدراء الأديان، حيث صدر في 16 فبراير 2015 حكم[15] بحبس الطالب بجامعة قناة السويس شريف جابر عبد العظيم في القضية رقم 7419 لسنة 2014 جنح ثالث الإسماعيلية، بالحبس سنة وغرامة قدرها ألف جنيه لإيقاف التنفيذ في تهم تتعلق بازدراء الأديان.
وكان رئيس جامعة قناة السويس قد حرر محضرًا ضد الطالب بتهمة إنشاء مجموعة على موقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك” تحت اسم “ملحدين”، وتحركت على إثره قوة أمنية من أقسام ثانٍ وثالث الإسماعيلية بضبطه والتحفظ عليه في 26 أكتوبر للتحقيق في اتهامه بازدراء الأديان، ولم يتم إخلاء سبيله إلا في 3 ديسمبر 2014 بكفالة قدرها 7500 جنيه على ذمة القضية انتهاءً بالحكم النهائي بالحبس سنة مع إيقاف التنفيذ. وتعد قضية الطالب شريف جابر امتدادًا لتوسع الجامعات في تقييد حرية التعبير عن المعتقد لأعضائها طلابًا وأساتذة.
وهكذا، يتبين من خلال استعراض هذه الحالات أن نمط انتهاك الحرية الأكاديمية بسبب اتهامات بازدراء الأديان قد تكرر في أكثر من جامعة مصرية، وفي فترات زمنية مختلفة، سواء كان التحرك تجاه عقاب الأساتذة نابعًا من إدارات الجامعات أو بضغط من الطلاب من خلال مواقع التواصل الاجتماعي.
ثانيًا: اتهامات ازدراء الأديان وانتهاك الحرية الأكاديمية وحرية التعبير:
لا يمكن أن نرى هذه القرارات بمعزل عن السياسة التي اتبعتها الدولة في السنوات الماضية من خلال انتهاك الحريات الأكاديمية واستقلال الجامعات، والتضييق على الحريات الشخصية وحرية الفكر والتعبير، حتى ولو خارج أسوار الجامعة، إضافة إلى تقييد الحق في التنظيم والعمل السياسي للأساتذة والطلاب. تخدم الإجراءات التأديبية المتخذة في حالات “ازدراء الأديان” هذه السياسة، وتكرس الاعتماد على أسلوب الحفظ والتلقين، بدلًا من التدريب على التفكير النقدي وإعمال وترسيخ قواعد البحث العلمي.
ويحفل الدستور المصري بمواد ضامنة لحرية الفكر والتعبير[16]، حيث نصت المادة 65 في باب الحقوق والحريات، على أن حرية الفكر والرأي مكفولة. ولكل إنسان حق التعبير عن رأيه بالقول، أو بالكتابة، أو بالتصوير، أو غير ذلك من وسائل التعبير والنشر. كما يضمن الدستور استقلال الجامعات وتمتع أعضاء المجتمع الأكاديمي بالحرية الأكاديمية اللازمة لقيام الجامعة المصرية بدورها في التقدم العلمي ونشر الثقافة والارتقاء بالمجتمع، حيث نُصَّ في المادة 21 منه على: “تكفل الدولة استقلال الجامعات العلمية واللغوية..”، وأقرت المادة 22 أن: “المعلمون وأعضاء هيئات التدريس الركيزة الأساسية للتعليم، وتكفل الدولة رعاية حقوقهم الأدبية بما يضمن جودة التعليم”، بينما أكدت المادة 23 من الدستور على كفالة الدولة حرية البحث العلمي وتشجيع مؤسساته.
ولا يتم ضبط التشريعات وفق هذه المواد، حيث تحوي القوانين مواد تهدر هذه الحريات والحقوق المكفولة للأفراد. إذ تنص المادة 98 (و) من قانون العقوبات على: “يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن 6 أشهر ولا تتجاوز خمس سنوات أو بغرامة لا تقل عن خمسمائة جنيه ولا تجاوز ألف جنيه كل من استغل الدين في الترويج بالقول أو الكتابة أو بأية وسيلة أخرى لأفكار متطرفة لقصد إثارة الفتنة أو تحقير أو ازدراء أحد الأديان السماوية أو الطوائف المنتمية إليها أو الإضرار بالوحدة الوطنية”.
وتعتبر هذه المادة هي حجر الأساس في كل التهم المتعلقة بازدراء الأديان. وكان الهدف من استحداث هذه المادة، نظريًّا، هو محاسبة رجال الدين في حال استخدامهم خطابًا دينيًّا يشارك في إحداث فتن داخل المجتمع. وكان اختيار رجال الدين نظرًا إلى تأثيرهم الديني والعقائدي على المؤمنين بهذه الأديان والمعتقدات، بخلاف عامة الناس الذين لا يمتلكون هذا التأثير في آرائهم التي تعبر عن أفكارهم الخاصة، لا وجهة نظر الدين نفسه. إلا أن المادة استخدمت بالطبع ضد الجميع.
تستخدم هذه المادة بشكل واسع جدًّا للتضييق على حرية الفكر والتعبير. وهي تتميز بقابليتها للتأويل حسب أي موقف وتبعًا لرأي السلطة السياسية أو استجابة للقيود الاجتماعية والدينية، التي يَجِبُ ألًّا تكون عائقًا أمام ممارسة أعضاء المجتمع الأكاديمي عملهم بحرية وحقهم في الإدلاء بآرائهم العلمية بحرية.
وكانت الحكومة المصرية قد تقدمت في عام 1981 بمشروع قانون لتعديل وإضافة عدد من مواد قانون العقوبات المصري، كانت من ضمنها المادة 98 المعروفة الآن بمادة “ازدراء الأديان”. فكان الهدف من مشروع القانون هو مواجهة ما عرف إعلاميًّا وقتها “بأحداث الفتنة الطائفية بالزاوية الحمراء” بإضافة مواد تتعلق بالحق في ممارسة الشعائر الدينية بعيدًا عن أعمال العنف وتهديد المجتمع. وكان الهدف هو معاقبة “المتشددين من الشيوخ والقساوسة” الذين يستخدمون الخطاب الديني للتحريض على العنف والكراهية في المجتمع. ولم يكن هدف المُشرِّع حينها هو معاقبة المفكرين أساتذة الجامعات على آرائهم العلمية والفكرية والتضييق على حقهم في الحرية الأكاديمية وحرية التعبير عن الدين أو المعتقد.
ويسمح استخدام وصف “أفكار متطرفة” بتأويلات غير محدودة لكل الآراء، ويصعِّب ذلك تحديد من المنوط به أن يقرر ما إذا كانت تلك الأفكار متطرفة أم لا. كما يترك ذلك مجالًا للقاضي أو المحقق أن يحدد وفق ما يراه مدى تطرف الأفكار في القضايا التي ينظرها وتتعلق بازدراء الأديان، والمعروف أن السائد من أفكار ومعتقدات في المجتمع قد يختلف مع تطور الزمن واختلاف الظروف، ويتغير مفهوم التطرف وفقًا لاختلاف المعتقدات أو الثقافات.
وبالإضافة إلى مواد قانون العقوبات، فإن إدارات الجامعات تستخدم في إحالتها أعضاء هيئات التدريس إلى التأديب[17]، مواد قانون تنظيم الجامعات التي تمنح الحق في تأويل أي ممارسة طبيعية للحرية الأكاديمية كالمناقشة أو البحث العلمي بأنها ” أفعال تحط من القيم والأعراف الجامعية”.
إلى جانب إعطاء قانون تنظيم الجامعات الحرية لجهة التحقيق في توقيع أي عقوبة يختارها دون تحديد تناسب العقوبات بالأفعال المخالفة لأحكام القانون.
وينص العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية[18] في المادة 18 منه على أن: “لكل إنسان الحق في حرية الفكر والوجدان والدين ويشمل ذلك حريته في أن يدين بدين ما، وحريته في اعتناق أي دين أو معتقد يختاره، وحريته في إظهار دينه..”. كما تنص المادة 19 من العهد نفسه على: “لكل إنسان حق في حرية التعبير. ويشمل هذا الحق حريته في التماس مختلف ضروب المعلومات والأفكار وتلقيها ونقلها إلى آخرين دونما اعتبار للحدود، سواء على شكل مكتوب أو مطبوع أو في قالب فني أو بأية وسيلة أخرى يختارها.”
وأكد التعليق العام رقم 13 للجنة المعنية بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية[19] على المادة رقم 13 من العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية[20] الخاصة بالحق في التعليم على تمتع أفراد المجتمع الأكاديمي بصورة فردية وجماعية بالحرية في متابعة وتطوير ونقل المعارف والأفكار عن طريق الأبحاث أو التعليم أو الدراسة أو المناقشة أو التوثيق أو الإبداع أو الكتابة.
ويشرح إعلان الحرية الأكاديمية الصادر في 2005 أنه: “مع أن كل واقع وطني يشكل بلا شك رؤيته الخاصة لمعنى وممارسة الحرية الأكاديمية، إلا أنه كحد أدنى يجب أن يخضع أداء أعضاء هيئة التدريس وتعبيرهم داخل قاعات الدرس وفي السياقات التعليمية الأخرى للتقدير المهني لزملاؤهم وحدهم”، ويخالف ذلك ما يحدث في مصر، حيث يتم إخضاع كل منتج للأكاديميين المصريين لقيود عدة منها الدينية أو السياسية أو المجتمعية، دون اكتراث بمعايير البحث العلمي.
وتحيل إدارات الجامعات الأساتذة إلى التحقيق طبقًا لقانون تنظيم الجامعات[21] إذا ارتكبوا أفعالًا “تحط من القيم والأعراف الجامعية”. كما افتقد قانون تنظيم الجامعات في لائحته التنفيذية الخاصة بتأديب أعضاء هيئة التدريس الدقة اللازمة في تحديد العقوبات، فضمن القانون عقوبات عدة، مثل: التنبيه واللوم والعزل والوقف عن العمل، دون أن يحدد أي الأفعال المجرَّمة تناسب كل عقوبة منها وفي ذلك إطلاق ليد إدارات الجامعات في توقيع عقوبات جزافية وفقًا لتقدير القائمين على التحقيق.
وأكدت المحكمة الدستورية العليا[22] في حكمٍ لها على أن النصوص العقابية الغامضة: ” يكون تطبيق تلك النصوص من قبل القائمين على تنفيذها عملًا انتقائيًّا، ومحددًا على ضوء أهوائهم الشخصية، ومبلورًا بالتالي خياراتهم التي يتصيدون بها من يردون، فلا تكون إلا شراكًا، لا يأمن أحد معها مصيرًا”، كما أنه من القواعد القانونية العامة[23] أن القوانين تخاطب كل أفراد المجتمع بغض النظر عن طبيعة عملهم أو ثقافتهم، لذلك يجب أن تكون نصوص القوانين الموجهة إلى المواطنين واضحة ومحددة وسهلة الفهم والاستيعاب لكي تصل إلى كافة المواطنين على حدٍّ سواء، لتحقق في ذلك المبدأ القانوني: “عدم جواز الاعتداد بالجهل بالقانون”، فيجب أن يفهم الناس القانون فهمًا واضحًا غير ملتبسٍ حتى تنطبق عليهم القاعدة القانونية.
ويؤدي غموض النصوص القانونية والتوسع في تأويلاتها إلى الإضرار بحقوق وحريات المواطنين، في حالة مادة “ازدراء الأديان” فإن الأمر ينسحب على الإخلال بالحق في حرية الفكر والتعبير وحرية المعتقد. وتقول المحكمة الدستورية[24] في هذا الصدد إن “المواطنين الذين اختلط عليهم نطاق التجريم والتوت بهم مقاصد المشرع، يقعدون عادة _حذر العقوبة وتوقيًا لها_ عن مباشرة الأفعال التي داخلتهم شبهة تأثيمها، وإن كان القانون في معناه العام يسوغها”.
ما يعني أن المواطنين عندما لا يفهمون على نحو دقيق نصوص القانون وماهية الأفعال المجرَّمة طبقًا للنص، يخافون ممارسة حقوقهم المصانة وفقًا للقانون والدستور خوفًا من أن يطالهم تفسير هذه النصوص الفضفاضة بالعقوبة.
لذا، فإنه من الضروري لحماية الحرية الأكاديمية وحرية التعبير لأعضاء هيئات التدريس أن يعمل المشرعون على ضبط التشريعات بما يتوافق مع مواد الدستور المصري التي تضمن الحرية الأكاديمية وحرية التعبير، بما ينهي هذا التناقض بين الدستور والقوانين السارية.
ثالثًا: الإدارات الجامعية كرقيب على أعضاء هيئة التدريس:
في 3 مارس 1932 صدر قرار عن وزير المعارف محمد علي عيسى بإقالة الدكتور طه حسين من منصبه كعميد لكلية الآداب بجامعة فؤاد الأول ونقله إلى ديوان الوزارة ليعمل كمفتش عام. جاء قرار الإقالة نتيجة رفض حسين طلب الوزير بمنح درجات الشرف لعدد من الطلاب الأجانب، وبعض الطلاب المصريين من كبار الأعيان، على أن يوزعها عليهم الملك فؤاد في حفل بالجامعة.
بعد صدور القرار بأيام في 9 مارس تقدم الدكتور أحمد لطفي السيد باستقالته من رئاسة الجامعة[25] احتجاجًا على نقل حسين من عِمادة كلية الآداب، وجاء في نص خطاب استقالته: “أسفت لنقل الدكتور طه حسين، عميد كلية الآداب، إلى وزارة المعارف، لأن هذا الأستاذ لا يعوض، لا من جهة الدروس التي يلقيها على الطلاب، ولا من جهة البيئة التي خلفها حوله، وبث فيها روح البحث الأدبي… وعلى الأخص لأن على هذه الصور دون رضا الجامعة ولا استشارتها كما جرت التقاليد منذ نشأة الجامعة، كل ذلك يذهب بالسكينة والاطمئنان الضروريين لإجراء الأبحاث العلمية”.
جاءت استقالة السيد دفاعًا عن استقلال الجامعة عن السلطة التنفيذية ما يوفر للأساتذة وهيئة التدريس بيئة أكاديمية حرة تمكنهم من تطوير المعرفة والأبحاث العلمية ما يعود على الطلاب والمجتمع بالتقدم والازدهار. ظلت ذكرى استقالة لطفي السيد من منصبه كرئيس للجامعة المصرية باقية إلى الآن، إذ أصبح 9 مارس يومًا للاحتفاء باستقلال الجامعة والتذكير بأهميتها البالغة.
على العكس من لطفي السيد، لم تلعب الإدارات الجامعية في هذه الآونة دورًا في الدفاع عن حرية واستقلال أعضاء هيئة التدريس، وتعد هذه الإدارات المسؤول الأول عن التضييق على الحرية الأكاديمية واستقلال الجامعة. ففي كل الحالات التي رصدها التقرير قام رئيس الجامعة باتخاذ قرار بوقف عضو هيئة التدريس عن العمل مباشرة كإجراء عقابي إلى حين استكمال التحقيقات، وفي كل الوقائع لم تكن هناك مخالفة علمية أو إخلال من طرف عضو هيئة التدريس بواجباته تجاه العملية التعليمية سوى ما أتى به الدكتور محمد مهدلي من منع الطلاب من النقاش. وإنما كانت القرارات تدخلًا في الحرية الأكاديمية للأساتذة تارَة وتعديًا على حقهم في حرية التعبير والحياة الخاصة تارَة أخرى.
وإذا كان على الأساتذة والطلاب أن يراجعوا قائمة طويلة من الممنوعات الدينية والاجتماعية والسياسية التي يجب ألا يتطرقوا إليها لا بالبحث ولا المناقشة، فلن يتبقى لهم إلا الموضوعات التي تحددها السلطة سواء كانت سلطة دينية أو مجتمعية تخضع لها السلطات التنفيذية. وتعد المبادرة باتخاذ إجراء تأديبي قاسٍ كالوقف عن العمل لمدة ثلاثة شهور بمجرد وصول الشكوى إلى رؤساء الجامعات قبل انتهاء التحقيقات _والذي ينتهك حقوق أعضاء هيئة التدريس من الأساس_ مغالاة وسوء استخدام للسلطة التأديبية الممنوحة لهم.
ويستند رؤساء الجامعات في قرارهم بوقف الأساتذة[26] أو الهيئة المعاونة عن العمل لمدة ثلاثة أشهر على المادة 106 من قانون تنظيم الجامعات التي تنص على: “لرئيس الجامعة أن يوقف أي عضو من أعضاء هيئة التدريس عن عمله احتياطيًّا _إذا اقتضت مصلحة التحقيق معه ذلك_ ويكون الوقف لمدة لا تزيد على ثلاثة أشهر، ويترتب على وقف عضو هيئة التدريس عن العمل وقف صرف ربع راتبه ابتداء من تاريخ الوقف”.
رغم أن القانون _وفقًا لصياغته_ لم يشترط الوقف عن العمل في حالة التحقيق مع عضو هيئة التدريس، وإنما وضعه كقرار ممكن في حالة حاجة مصلحة التحقيق إليه، فإن رؤساء الجامعات تعاملوا مع هذه الإمكانية كضرورة في كل الحالات.
وساهمت التعديلات التي أدخلت على قانون تنظيم الجامعات وقانون تنظيم الأزهر في إطلاق يد إدارات الجامعات في فصل وتوقيع العقوبات التأديبية القاسية على الأساتذة. وكان آخر هذه التعديلات تصديق الرئيس عبد الفتاح السيسي على قانون رقم 152 لسنة 2019، بتعديل بعض مواد قانون تنظيم الجامعات[27] رقم 49 لسنة 1972. استهدفت التعديلات في المواد من 103 إلى 112 الخاصة بتأديب أعضاء هيئة التدريس، توسيع السلطة التأديبية الممنوحة لرؤساء الجامعات وتشديد العقوبات التي تصل إلى الفصل من الوظيفة والحرمان من المعاش، والوقف عن العمل لمدة ثلاثة أشهر _إذا اقتضت مصلحة التحقيق ذلك_ وهي المادة التي يُستنَد إليها في قرارات الوقف عن العمل المتكررة للأساتذة.
وهو نفس التعديل _تقريبًا_ الذي أدخل على قانون الأزهر[28]، إذ صدر قرار بتعديل المادة 72 من القانون 103 لسنة 1961 بشأن قانون تنظيم الأزهر بما يسمح لرئيس الجامعة بعزل أعضاء هيئة التدريس وفصل الطلاب من الجامعة نتيجة ادعاءات بالاشتراك في مظاهرات أو أعمال تخريبية، واستخدمت جامعة الأزهر هذا التعديل في فصل 18 أستاذًا[29]، بدعوى تحريضهم على التظاهر داخل الجامعة والانقطاع عن العمل لمدة جاوزت ستة أشهر، كان ذلك على خلفية تغيبهم عن العمل بسبب احتجازهم على ذمة قضايا سياسية، منهم الدكتور عبد الرحمن البر الأستاذ بكلية أصول الدين بالمنصورة، والدكتور محمد البلتاجي الأستاذ بكلية الطب بنين بالقاهرة.
وفي 2014، عدل قانون تنظيم الجامعات بما يشمل إلغاء آلية انتخاب القيادات الجامعية[30]، وجعل تعيين وإقالة رؤساء الجامعات من سلطة رئيس الجمهورية، ما ترتب عليه تدخلات أمنية عرقلت تعيين رؤساء جامعات بسبب انتماءاتهم السياسية.
إن روح هذه التعديلات بجملتها تهدف إلى تضييق الخناق على حرية أساتذة الجامعة في التدريس والنشر والبحث من ناحية، وحريتهم الشخصية في التعبير عن مواقفهم في مختلف الموضوعات من ناحية أخرى. كما أحكمت هذه التعديلات سيطرة السلطة التنفيذية على الجامعات.
خاتمة وتوصيات
تقيد اتهامات ازدراء الأديان التي توجه إلى الأساتذة الحرية الأكاديمية، التي تشتمل على حرية البحث والتدريس والنشر والمناقشة والابتكار، التزامًا بالمعايير العلمية والأكاديمية، والتي تعد الأساس في قيام الجامعة بالأدوار المنوطة بها، من نشر المعرفة وتطوير البحث العلمي وخدمة المجتمع، وبناء أجيال قادرة على التفكير النقدي والإبداع. ويجب أن تتوقف هذه الانتهاكات لما لها من تأثير سلبي يمنع الجامعة من القيام بأدوارها ويحرم أعضاء هيئات التدريس من حقوقهم المكفولة في الدستور المصري، وفي سبيل ذلك توصي مؤسسة حرية الفكر والتعبير بالآتي:
على إدارات الجامعات والكليات والمعاهد العليا وقف إحالة أعضاء هيئة التدريس إلى التحقيق بسبب ممارسة الحرية اﻷكاديمية أو حرية التعبير عن الدين أو المعتقد.
يجب أن توقف إدارات الجامعات والكليات والمعاهد العليا تدخلاتها في اختيار الأساتذة موضوعات أبحاثهم العلمية، وطريقة التدريس والمناقشة داخل قاعات المحاضرات والبحث.
على رؤساء الجامعات عدم التغول في استخدام سلطتهم التأديبية، والعمل على حماية أعضاء هيئة التدريس من الضغوط السياسية والدينية والاجتماعية حتى يتمكنوا من ممارسة عملهم بحرية.
يجب أن يلغي مجلس النواب المنتخب المادة 98 (و) من قانون العقوبات بسبب عدم دستوريتها وإخلالها بالحق في حرية التعبير والحرية الأكاديمية.
على مجلس النواب المنتخب العمل على تعديل قانون تنظيم الجامعات بما يضمن الحرية الأكاديمية والاستقلال الفعلي للجامعات عن السلطة التنفيذية، وإلغاء سلطة رئيس الجمهورية في تعيين رؤساء الجامعات وعمداء الكليات.
يجب على مجلس النواب المنتخب إلغاء استخدام مصطلح “الأعراف والتقاليد الجامعية” من قانون تنظيم الجامعات، والذي يستخدم عادة للتضييق على حرية الأساتذة وأعضاء الهيئات المعاونة.