الحلقة السادسة من يوميات 19 شهرًا من الحبس الاحتياط التي يوثق فيها الصحفي خالد داود، الرئيس السابق لحزب الدستور شهور اعتقاله .. " عد على صوابعك 150 يوم" .. الحلقة السادسة (6)
بدأت الحياة تتخذ روتينًا معتادًا في الزنزانة، ولكن ظلت المعاناة الأكبر هي تكسير العظام في منطقتي الكتف والظهر بعد ساعات قليلة من النوم على البطانيتين فوق سطح الحمام الخشبي. خلال يومين أو ثلاثة، أصبحت أجد صعوبة في القيام من على "السرير" نتيجة هذه الآلام. منعت نفسي منعًا باتًا من التفكير في سريري ووسائدي. تحسنت نسبيًا ظروف المعيشة بسبب تبرعات تلقيناها عبر فتحة "النضارة": مزيد من الملاعق والأطباق البلاستيكية، قهوة وشاي وسكر، صابون وبعض الأطعمة. واستمرت معركة الحصول على المياه الساخنة لإعداد مشروبات الصباح.
فجأة تلقينا غطاء علبة تونة من الصفيح عبر فتحة النضارة. لم أكن أعرف قيمة هذه القطعة من الصفيح الحاد. وكنت عثرت على غطاءين مماثلين مخبأين في دعائم سقف الحمام وتخلصت منهما في القمامة في إطار حملة تنظيف الزنزانة. ولكن عندما سألت أحد الزملاء، عرفت أن هذه الأغطية هي "الشمبرة"، البديل العملي والناجح للسكين الممنوع دخوله السجن. أدركت أنني ارتكبت حماقة كبيرة بالتخلص من الغطائين.
رسميا وجود "الشمبرة" في الزنزانة يكفي للحصول على عقوبة تأديبية، ولكن نظرًا لعدم وجود بديل لها، يكتفي المخبرون بمصادرتها. ونظرًا لمعرفة إدارة السجن باستخدام السجناء أغطية العلب الصفيح كبديل للسكاكين، كان المسؤول عن الكافيتريا يقوم بتفريغ علب التونة أو الفول في "كيس تلاجة".
استخدمنا "الشمبرة" في تقطيع الخضروات التي توفرها إدارة السجن وأضفناها لوجبة الفول في الصباح، مع قليل من الملح الذي وصلنا بدوره طائرًا في ورقة صغيرة عبر فتحة النضارة. وكان هذا أول طبق فول محتمل.
"المُسَيِّر" (بضم الميم)، وهو سجين مدان في جريمة قتل ومحكوم عليه بالمؤبد، كان همزة الوصل مع إدارة السجن وضابط الأمن الوطني، كان صريحًا معي بشأن ما يمكن توقعه. سألني عن التهم الموجهة لي، وكان رده الفوري بعد معرفتها "عد على صوابعك 150 يوم"، وقصد بها الفترة التي تقوم فيها نيابة أمن الدولة العليا بالتجديد للمحبوسين احتياطيًا، بواقع مرة كل 15 يوما، إجمالي عشرة تجديدات تلقائية، وقال إنه لا أمل لي في الخروج قبل ذلك.
بعد انتهاء شهور التجديد الخمسة، يصبح التجديد عن طريق "غرفة المشورة" وهي إحدى دوائر محكمة الجنايات التي تنعقد في معهد أمناء الشرطة القريب من سجن الليمان، وتكون مدة كل تجديد 45 يومًا.
عندما شكوت من ظروف الحبس والعزلة وحرماني من طلبات أساسية كأدوات النظافة والمناشف، الخ، قال لي المسير "اطلب مقابلة ضابط الأمن الوطني". كنت أطلب كل يوم، ولم يستجب أحد لطلباتي حتى جاء اليوم الموعود بعد 15 يومًا بالتمام والكمال: أول زيارة أتلقاها من أفراد أسرتي.
كنت مشتاقًا جدًا لشقيقتي الراحلة منال، وأخي الأصغر إياد. كنت أريد الاطمئنان على صحة والدي وتوقعت عدم حضوره نظرًا لحالته الصحية الصعبة وعدم قدرته على الحركة تقريبًا. أردت معرفة كل ما يقال ويحدث خارج أسوار السجن: ردود الفعل، هل هناك تفسير للقبض عليّ، هل تم التواصل مع نقابة الصحفيين التي كنا نتشوق ونقاتل لعضويتها ونحن صغار لكي تكون هناك جهة توفر لنا الحماية، تذكرت كيف لم يعترف بي كثيرون من أبناء جيلي كصحفي إلا بعد حصولي على عضوية النقابة.
فجأة فتح باب الزنزانة ونادى المخبر اسمي "خالد داود. زيارة". ارتبكت جدًا. فكرت أنه يجب أن أبدو قويًا أمام إخوتي كي لا يحزنوا لما أمرُّ به. كنت خجلًا جدًا من "السترة" المزرية التي كنت ارتديها ولا أملك سواها بجانب شبشب الزنوبة الذي اضطررت لإصلاحه لكي يبقى متماسكًا. لم أكن حليق الذقن أو مهندم الشعر، وكانت معالم الدخول في بدايات العقد السادس من العمر تظهر بوضوح حيث اكتست لحيتي باللون الأبيض. لم يرني أحد بهذه الهيئة من قبل.
اصطحبني المخبر من الزنزانة بعد أن وضع الكلبش في يدي اليسرى، وبدأنا التوجه نحو بوابة السجن. في زيارات سابقة لبعض الزملاء من حزب الدستور أثناء سجنهم، كنا عادة ما نتوجه لغرفة واسعة يتجمع فيها كل المساجين مع أسرهم. ولكن السلطات المعنية قررت التعامل معي بشكل مختلف، عرفتُ أن زيارتي ستكون في أحد مكاتب السجن بحضور ضابط الأمن الوطني. فكرت أنه لا بد سيسجل كل كلمة أقولها أثناء الزيارة، تصريحًا وتلميحًا.
اقتربت أنا والمخبر من المكتب الذي ستتم فيه الزيارة، أمرني بالتوقف حتى يحصل على الإذن. وفجأة شاهدت شقيقتي منال تخرج من غرفة تفتيش السيدات. شقيقتي التي تكبرني بعامين فقط هي رفيقة العمر ومخزن الأسرار وصاحبة أطيب القلوب منذ الطفولة. ناديتها من على بعد أمتار قليلة "منول"، نظرت نحوي بلهفة، ولكن منعني المخبر من التقدم ولو لخطوة واحدة وأمرني بالانتظار حتى ندخل المكتب، واكتفت بدورها بمناداة اسمي.
ولأنها كانت أول زيارة حضر معي ضابطان وليس ضابطًا واحدًا، أحدهما أكثر تقدمًا في العمر وأعلى رتبة من الآخر. عرفت لاحقًا أن الضابط الشاب هو المقيم معنا في السجن، وهو من كنت أطالب "المسير" بلقائه لكي أشكو سوء المعيشة طوال الأسبوعين الماضيين.
كانت منال متماسكة وقوية على عكس توقعي، أما إياد الذي يصغرني بخمسة عشر عامًا فلم يتمالك مشاعره وأجهش في البكاء عندما احتضنني بقوة. طالبته بالصمت فورًا وقلت له بالإنجليزية لا يجب أن نبدو ضعفاء وأنني متماسك وعلى ما يرام.
شقيقتي منال كانت متأثرة بكل ما تقرأه وتشاهده في الأفلام عن سوء المعاملة التي يتعرض لها المساجين السياسيين. وكان أول سؤال وجهته لي فور جلوسها "بيبهدلوك. بتتضرب؟"، ضحكت وتذكرت فيلم "الكرنك" الشهير وأمسكت بيدها قائلا "لأ يا منال. محدش بيضربني. ومفيش فرج". كل من شاهد فيلم الكرنك يعرف من هو "فرج"؛ المخبر الشرس الذي لم يكتفِ بضرب المعتقلين من الذكور، بل شملت مهامه القذرة أيضًا اغتصاب البطلة التي قامت بدورها الراحلة الجميلة سعاد حسني. ضحكنا نحن الثلاثة. وقررت ألا أخبرهما عن أية مصاعب تواجهني في السجن من ناحية المعيشة.
كانت سعادتي بالغة جدًا عندما أخبرتني منال أنها أحضرت لي فوطة ومعجون أسنان وفرشاة وكل ما يلزمني من أدوات نظافة، بجانب الملابس التي كان يجب أن تكون كلها بيضاء تمامًا. أي لون آخر ممنوع. وطبعا بعض الأطعمة الشهية للمرة الأولى.
سألتني منال عن سبب نمو ذقني بهذا الشكل، فأشرت للضابط الذي حضر معي المقابلة وقلت إنه هو المسؤول. كان رده أن الوقت لم يحن بعد للاستعانة بخدمات الحلاق، والحلاق هو سجين أيضًا ممن كانوا يعملون في الحلاقة قبل إدانته في جريمة ما. وعندما عرفت منال أنه من غير المسموح للسجناء الحصول على ماكينات حلاقة الذقن لأنها تحتوي على أمواس، اقترحت علي استخدام كريم إزالة الشعر، وهو ما أدخلنا في نوبة ضحك ثانية عندما رفضت بشدة وقلت لها أن تلك الكريمات تستخدمها النساء فقط، ومستحيل تكون بديلًا لحلاقة دقن راجل.
الأخبار من الخارج كانت مطمئنة نسبيًا. حملة تضامن واسعة، واتصالات لا تنقطع من الأصدقاء تعرض تقديم المساعدة، وزيارات لا تنقطع لوالدي في فراشه. زميلات وزملاء من الصحفيين قاموا بجمع تبرعات مالية وسلموها لشقيقتي قبل الزيارة. سعدت جدًا ليس لأنني أحتاج المال، ولكن لإدراكي أنهم كانوا يقتطعون من دخول أسرهم لكي يبعثوا لي برسائل التضامن.
سألت منال عن رد فعلها لغيابي بعد اتصالي الأخير معها وفشلي في احضار ما طلبته مني من بقالة للمنزل. قالت إنها عبرت لوالدي عن قلقها، ولكنه طمأنها قائلًا إنني غالبًا لم أتمكن من العثور على مكان لركن سيارتي وقررت عدم الحضور. لم تعرف منال باعتقالي سوى بعد تدفق مكالمات الأصدقاء الذين قرأوا بوست المحامي خالد علي عن رؤيته لي في مقر نيابة أمن الدولة العليا. أما النقابة العزيزة فصرفت لي مبلغ خمسة آلاف جنيه كإعانة كما هو الحال مع كل الصحفيين الذي يتعرضون للحبس الاحتياطي في قضايا سياسية.
نقيب الصحفيين، ضياء رشوان، صديق قديم وأحد مصادري الصحفية قبل أن يكون نقيبًا. وعندما كان يرغب في الترشح للمنصب في بداية عام 2019، زارنا في الجريدة التي أعمل بها وأبلغته اعتراضي على ترشحه لأنه يشغل في نفس الوقت منصبًا رسميًا كرئيس للهيئة العامة للاستعلامات، مما قد لا يمكنه من الدفاع عن الصحفيين في حال اعتقالهم لأسباب سياسية. وسألته حينها كيف ستتوجه لعملك في الصباح للدفاع عن الحكومة وسياساتها وخطها الرسمي القائم على أنه لا يوجد اعتقال للمعارضين في مصر، ثم تذهب للنقابة في المساء وتصدر بيان يطالب بإطلاق سراحي في حالة اعتقالي لأسباب سياسية؟ وكان رده "اتحبس انت بس وملكش دعوة".
حكيت هذه الواقعة لشقيقتي وطلبت منها الاتصال برشوان ومطالبته بالسعي لخروجي من السجن. كنت أظن حتى ذلك الوقت أن ما حدث هو مجرد "قرصة ودن" لإبلاغي أنه لا توجد خطوط حمراء، وأن عملي كصحفي في أحد المؤسسات القومية لن يحميني، ولا ترأسي سابقا لحزب سياسي معارض، ولا عملي الحالي كأستاذ للصحافة في الجامعة الأمريكية في القاهرة.
لم ينفعني حرصي الشديد في استخدام لغة معتدلة في التعبير عن مواقفي المعارضة، ورفضي لانتقاد شخص الرئيس أو استخدام كلمات لا تليق بمنصبه. وكنت دائمًا أردد كالأسطوانة المشروخة "أنا معارض في حدود ما يسمح به الدستور والقانون"، ولكن تبين أنني كنت مخطأً جدًا، والأمر لم يكن "قرصة ودن" بل "تكسير عظام" وانتقام الفك المفترس.